حتى تعرف الرمال الحمراء كيف تحافظ على الأسرار
حتى لا تتلاشى محبة الشعب في الليل
حتى تغزو المياه الوردية الكائن
ها أنا ذا… أسير على خطى قدري العشوائي الذي يقودني على طول شارع المرارة الطويل الذي لا ينفصم… أحاول أن ألحق به، أن أسير بجانبه، لكن هذا مستحيل، فهو سريع جداً، يسبقني بسنوات عديدة… مهما أسرعتُ في إيقاع حياتي، فإن عقلي قد اكتسح بنوره، قبل دهور، تلك الأرض، ولا يسعني إلا أن أجمع بتواضع وخنوع بين يدي الحصاد الذي زرعه لي القدر وعقلي… ولم يفلت هذا الصيف من النبوءة التي لا مفر منها….. لقد زرع عقلي في كثير من ليالي اليقظة وكثير من ليالي النوم خط سير مثالي، وطريقاً كاملاً: دائرة سحرية. إذا وضعت بوصلة على خريطة، وغرزت الإبرة في قلب صحراء سيناء، ووضعت الطرف الآخر على قمة هرم خوفو ورسمت دائرة…. هل هذه هي الدائرة السحرية التي رسمها عقلي ذات يوم، والتي سيتعين على جسدي الآن أن يتجسد في جسدي؟ حلم سيكون عليّ أن أعانيه وأشعر به وأعيشه بشحمه ولحمه.
على متن الطائرة، كان عقلي قد وشم بقلم الشك على جلدي هذه الكلمات: ”غريبٌ أن أكون وحدي؟ هل أرغب في السفر مع شخص ما؟ لا أدري… أنا أعلم أنني مصحوبة بأشياء كثيرة: أمنيات طيبة من كثيرين يحبونني وقد تركوني ورائي، وعالمي الآخر. في كليهما أجد القوة للبقاء متيقظة ومستيقظة. أعرف الآن أنه لا تنتظرني تجارب قريبة مني، لكنني أعتقد أن عبور الصحراء سيختبر جسدي وقدرته على التحمل. عليّ أن أقوّيه ليكون بمثابة مركبة لي”.
بحار حجر المغرة
بدأ كل شيء عندما هبطت الطائرة ببطء فوق القاهرة. كان الوقت ليلاً وكانت المدينة مزيجاً جميلاً ومتنوعاً من الأضواء والألوان. كان كل شيء عبارة عن نقاط في الليل. نقاط ومن ورائها العدم، ظلام دامس لا نهائي، ظلام دامس لا نهاية له.
في المطار شعرت ببهجة هائلة تولد من جديد في داخلي… إذا كانت هناك أي لغة على هذا الكوكب تجعلني أرتجف لمجرد هديلها… فهي اللغة العربية.
ومع ذلك، لم تدم نشوتي طويلاً. فما إن خرجت من أبواب المبنى حتى وجدت نفسي محاطاً بحشد من البشر يتدفقون كقطرات صغيرة في زوبعة مائية عنيفة. شعرت بالضآلة… والضياع. كان هناك أناس يبحثون عن آخرين ويمكنك أن تقرأ في عيونهم ألم البحث، وآخرون يحاولون بيعك خدمات سيارات الأجرة الخاصة بهم بأسعار باهظة، ويصرخون لجذب الانتباه، ويصارعون ليكونوا أول من يقع على الفريسة الطرية، على السائحين الغافلين. أغمضت عيني وتحركت إلى الأمام. نجحت في اجتياز الزحام دون أن أجذب انتباه أي آسر للغافلين. تنفست. ثم جاءني رجل وقال لي: ”تاكسي؟ “بيكام؟ “جامسين “لا. تلاتين لا شاي. ”ماشي“، أو بعبارة أخرى: ”تاكسي؟ بكم؟ خمسون ثلاثون أو لا شيء. حسناً.” وانطلقنا… لا بد أن السيارة المسكينة قد تألمت كثيراً من السنين لدرجة أنها لم تستطع إلا أن تطلق أنيناً مثيراً للشفقة عندما وصلنا إلى …. كان له صرير من الداخل.
بالكاد استغرقني الأمر نصف ساعة لأدرك بوضوح تام جوهر القاهرة القاهرة. الجوهر الذي يمكن تلخيصه في الغبار والأشجار والشرطة وأبواق السيارات التي تطلق أبواقها…. كل بناية وكل مركبة وكل مكان مغطى بذلك الغبار الصحراوي الرملي الذي يمنحها لمسة لا توصف… المدينة، صدق أو لا تصدق، مليئة بالأشجار الضخمة والجميلة على جزر النيل وفي العديد من الشوارع والأزقة… الشرطة في كل مكان، سواء شرطة المرور البيضاء أو الشرطة البنية والخضراء في نقاط التفتيش أو الشرطة الزرقاء التي تحرس المباني والسفارات… وأبواق الأبواق تسمع بالآلاف في كل الأوقات ومن كل المركبات، فهم يستخدمونها للتخفيف من آثار ذلك الكسل الذي ييبس أصابعهم ويمنعهم من لمس أزرار التحكم في الإشارات في القاهرة، يعمل البوق كضوء إرشادي ومؤشر وضوء مكابح؟ مثل الله، إنه موجود في كل مكان.
كانت أول أعجوبة رأيتها في القاهرة في اليوم التالي هي المتحف، لم يكن المتحف في غاية الحفظ، وكانت القطع المعروضة فيه سيئة العرض، ولكنه كان عظيماً وجميلاً إلى حد لا يوصف، وكانت بين جدرانه كنوزاً تجعلك تعتقد أنك في زمان آخر ومكان آخر. كان الإبحار في قاعاته أشبه بالإبحار على متن قارب الحياة عبر عوالم أخرى. لقد كانت رحلة إلى قلب الجمال من خلال الرموز السحرية والرموز المحكمية الغنية.
في قاعاته صُوِّر تاريخ مصر القديمة بأكمله، مقسمًا حسب التقسيم الزمني الذي قام به المؤرخ المصري مانيثو حوالي عام 300 قبل الميلاد، حيث تم تجميع السلالات الواحدة والثلاثين في أربع فترات (البروتودينستية، والقدماء، والوسطى، والإمبراطورية الحديثة).
على الرغم من أنني شخصياً أجرؤ على الشك في صحة هذا التقسيم الزمني، حيث يذكر ماناتون أنه قبل بداية السلالات كان هناك عهد للآلهة استمر 13900 سنة، تلتها فترة 11000 سنة حكمها أنصاف الآلهة. ولا أكاد أن أندهش أبدًا من أن المؤرخين المعاصرين الذين كانوا متعلقين جدًا بالعلمانية المحققة يقبلون ملحمة مصرية ويخلدونها كأساس للتاريخ ويتخذون تصنيف ماناتون للأسرات أساسًا لنظرياتهم ورواياتهم التاريخية. وما داموا يفعلون ذلك، فلماذا لا ينظرون من هم الآلهة وأنصاف الآلهة الذين حكموا من قبل ويحاولون أن يفسروا لنا ما آل إليه أمرهم؟
فمنذ عصر الأسرات الأولي، الذي يغطي السلالتين الأوليين ويرجع إلى ما يقرب من سبعة عشر ألف سنة، برز الفخر والإجلال الذي قدمته التماثيل المختلفة لمينس المعروف أيضًا باسم نارمر موحد مصر العليا والسفلى. فمن جسده الذي كان يجب أن يكون كامل الأشكال، وفقًا لقواعد النحت المطبقة على الفراعنة، انبثق الانسجام التام: بأي وقار كان أول فرعون في تاريخ مصر العظيمة يرتدي تاج المملكتين!
وإذا كان من الممكن في أي وقت من تاريخ مصر أن يظن في أي وقت من الأوقات أن الحكام لم يكونوا رجالاً، بل كانوا يمتلكون معرفة فائقة، فقد كان ذلك في فجر الإمبراطورية القديمة. فمن ثوسر، أول ملوك الأسرة الثالثة إلى ميكيرينوس، خامس ملوك الأسرة الرابعة، في فترة قصيرة مدتها مائتا سنة، أقيمت آثار في غاية الإتقان والإحكام، بحيث لا يمكن أن تتكرر في بقية التاريخ البشري. إن عظمة وإتقان الأهرامات التي أقيمت في ذلك الوقت، بدءًا من الهرم الأول الذي كان لا يزال على شكله المدرج للفرعون ثوسر في سقارة، إلى جواهر الجيزة الثلاث، هرم خوفو الأكبر، وهرم ابنه خفرع وهرم حفيده ميكيرينوس، لا يمكن أن يحاكى مرة أخرى.
إن ثلاثيات ميكرينوس الأربعة محفوظة في المتحف من الإمبراطورية القديمة حتى الأسرة الحادية عشرة، وهي تصور الفرعون ميكرينوس في نقش غائر من الديوريت وبجواره إلى يمينه أثور، إلهة الجمال والحب والبهجة، ممثلة بامرأة هادئة مبتسمة يحمل رأسها قرنين يحتضنان قرصاً شمسياً في وداعة. وتظهر الثالثة في الخلاف من الثالوث إلى يسار ميكرينوس وتجسد في كل منحوتة منطقة مختلفة من مناطق الإمبراطورية المختلفة. ومن المدهش أن نتصور أن هذا الحجر الأخضر الجميل، ذا الصلابة التي تضاهي صلابة الجرانيت، يمكن أن ينحت بهذه البراعة والدقة في مثل هذه اللحظات البعيدة من التاريخ، وأن سر نحته لم يكن معروفاً إلا في هذه السلالات القديمة، وهو فن سيقع أيضاً في غموض قريب في سديم النسيان الغامض.
ومن تماثيل الديوريت الأخضر الأخرى التي تسحر الناظرين وتأسرهم تمثال خفرع الفرعون الذي يعني اسمه ”إله الفجر“. في هذا التمثال، يجسد خفرع في هذا التمثال أوزيريس؛ وعلى وجهه الهرمي الهادئ والساكن والساكن يستند صقر حورس، ويستند جسده على عرش ظهره جناحا إيزيس وقاعدته الإلهة سحميت الأسد.
ولم تمض ثانية واحدة حتى يهرب الذهن في مطاردة الخيال إلى عالم الخلود في محاولة لاستدعاء الروابط المعصومة التي تجمع بين آلهة الكونية المصرية. ويطمس العقل في مشاهد الفضاء التي يتزوج فيها أوزوريس، إله الخلود وسيادة الآلهة والبشر، من إيزيس، الإلهة العليا والأم الإلهية، فتنجب قوتي الخير، حورس، الصقر، إله الشمس، وأنوبيس، ابن آوى، الديّان المطلق. لكن توازن الخير لا يكون أبدًا أبديًا أبدًا وهناك دائمًا شر يعاكسه. ومن هنا قام سيث، أخو أوزوريس، بقتل أوزوريس، ومزّق جسده إلى أشلاء ونثر الأشلاء في جميع أنحاء مصر. بحثت إيزيس في مياه النيل والصحاري الشاسعة محاولةً إعادة جسد أوزوريس إلى جسده مرة أخرى، وبحب وصبر عظيمين نجحت في إعادة الحياة إلى جسد زوجها الحبيب. منذ تلك اللحظة كان أوزوريس بالنسبة للبشر مثالاً وأملًا للخلود. فحتى لو كان الشر موجودًا، فمن الممكن دائمًا التغلب عليه، والموت موجود فقط لتلك الكائنات التي تقبله ولا تحاربه بسلاح الحب والصبر الذي لا يقهر للتغلب عليه.
إذا حدَّقتَ بعينيك، وأنت تقلب على عقبيك، ترى أمامك ثلاث عجائب أخرى، تمثل لك هذه المرة من عامة الناس. في جانب منها تمثال من خشب الجميز لعمدة القرية (شج البلد)، وهو عمل من أعمال التركيب البدائي، فيه أحجار كريمة كعينين تخترقانك وتطاردانك في أرجاء الغرفة. وفي المنتصف، نفس العينين الباحثتين للكاتبة الجالسة. وعلى الجانب الآخر عمل من الجبس لزوجين متزوجين يظهر فيه هو، راجوتيك، ببشرة سمراء سمراء تحمل أول تمثيل لشارب على الإطلاق، بينما تظهر هي، نفرت، ببشرة ناصعة نقية نتيجة مباشرة لحياتها المنزلية. كم هو ظلم لنا نحن النساء أن نحصر دائماً في محيط صغير كالمنزل، في حين أن العالم كبير جداً وجميل جداً، وهناك الكثير من الأشياء التي يمكن رؤيتها واكتشافها والكثير من الحبيبات الصغيرة التي لا يزال بإمكاننا كنساء أن نساهم بها في هذا الكوكب المنكوب! ليت أحداً ما استمع إلينا من قبل!
إذا كانت آثار العظمة المتبقية من الإمبراطورية الوسيطة لا تكاد تذكر، فإن الإمبراطورية الجديدة تتفجر من جديد بقوة وروعة. كانت هذه الإمبراطورية الجديدة قوساً من الروعة والعظمة، من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة العشرين، ثم بدأ الانحطاط الذي لا يرحم.
وبالحديث عن المرأة، فقد حكمت حتبسوت في الأسرة الثامنة عشرة، وحكمت بصلاحيات الفرعون. لكن هذه المرأة العظيمة، التي تُعرض تماثيلها الرائعة في المتحف، كان عليها أن تتبنى صفات الذكور بل وتستخدم دائمًا ضمير المذكر ”و“ حتى تؤخذ على محمل الجد. وعند وفاتها، كانت الكراهية المتراكمة لها من قبل ابن أخيها وابن زوجها تحتمس الثالث، ربما بسبب حقارة سلفها لكونها من ”الجنس سيء السمعة“، لدرجة أنه قام بمحوها من جميع النقوش، وهو ما كان يعادل حسب المعتقدات المصرية إغلاق أبواب الخلود في وجه أحدهم، حتى أن القلة التي حكمت لم تنتقل إلى الأجيال القادمة! يا له من مستقبل!
مع الغرفة التالية يأتي فصل آخر معزول في التاريخ المصري. إنها الغرفة المخصصة لأمينوفيس الرابع. من كان هو؟ لنرى، دليل آخر، كان معروفًا أيضًا باسم إخناتون. نعم، بالضبط، كان ذلك الفرعون الرائع الذي أصلح ديانة مصر، واعتمد عبادة آتون إلهًا وحيدًا والذي قدمه ميكا والتاري في كتابه الممتع ”سينوي المصري“. الرجل الذي أحدث قطيعة مع البنى الاجتماعية القائمة، حيث كان للطائفة الكهنوتية كوسيط بين الآلهة والبشر دورًا مهيمنًا وقال بعدم وجود وسطاء. هو وحده ومثاله يقودان إلى الله. مثال الحياة التي يكون فيها الحق هو كلمة السر، ورمزه هو قلم الحق. الحقيقة التي يُعبَّر عنها في الفن بواقعية مضنية، حيث يمكن تصوير حتى العيوب الجسدية للفرعون طالما أنها تتوافق مع الواقع. في تمثيلاته هناك هالة معينة توحد بين إخناتون وحبيبته نفرتيتي، وينبثق من اتحادهما عنخ أو مفتاح الحياة. ربما يكون أحد التفسيرات هو أن الإله الواحد الحقيقي، الذي يمنح الحياة الأبدية، لا يمكن الوصول إليه وتجسيده إلا من خلال حب فريد وحقيقي.
إذا كان المتحف مكونًا من طابقين، تخيلوا كم يجب أن يكون كنز فرعون صغير حكم لعقدين فقط من الزمن ليشغل الطابق العلوي بأكمله تقريبًا. هذا هو الكنز الموجود في مقبرة توت عنخ آمون. إن التناقض الواضح بين عدم أهميته كفرعون وعظمة العجائب التي عُثر عليها يفسره، كما هو الحال دائمًا مع هذه الأشياء، بتقلب عشوائي للقدر. فقد اتضح أن رمسيس الثاني، الفرعون العظيم من الأسرة التاسعة عشرة، الذي نجح في إخضاع الحيثيين، كان مدفونًا أيضًا في وادي الملوك، ولحسن الحظ أن مقبرته المبهجة كانت فوق مقبرة أقدم لفرعون أقل أهمية وتافهة، وهو توت عنخ آمون.
ومن بين كل المقابر الموجودة في ذلك الوادي، كان التاريخ والزمن يظهران عنادهما وكانت السرقة تترك دليلاً موثوقاً على مدى تجذرها في البشر منذ بداية الزمان. وبحلول هذا القرن، كانت جميع المقابر قد تعرضت للنهب وكانت في حالة نظيفة للغاية. ففي عام 1922، عندما كان عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر ينظف أحد جوانب مقبرة رمسيس الثاني العظيمة، اكتشف ”بالصدفة“ درجة. ما كان تحت تلك الدرجة كان كافياً لإبهار العالم أجمع.
بدت المقبرة مثل أحجية الصور المقطوعة. أولاً وقبل كل شيء، كانت هناك أربع مصليات خشبية مغطاة بالذهب، مدرجة واحدة داخل الأخرى. وداخل أصغرهم كان هناك أربعة توابيت، كان أصغرهم يحتوي على جسد الفرعون المحنط. وبجانبها كانت هناك أربع مزهريات كانوبية على شكل توابيت صغيرة عليها نقوش مختلفة، حيث تم حفظ كبد المتوفى ورئتيه ومعدته وأمعائه.
وحول الكنيسة لا يزال بإمكانك أن ترى في صورة داجير من ذلك الوقت كيف كانت تتراكم مئات الأشياء، من عربات وملابس وأسرة وكراسي وجرار وأواني مطبخية أخرى ورفوف توابل وبذور لا تزال تنبت حتى اليوم، و365 تمثالاً يقدم كل يوم للملك وأيقونات للآلهة من بينها تمثال أنوبيس الثمين، وآلاف الجواهر. وباختصار، كل ما اعتبره معاصروه ضروريًا لكي يعبر الفرعون المتوفى بحر الدينونة إلى شاطئ الحياة الأبدية. إذا كان هذا القدر من الأعجوبة لملك صغير، فلا يمكن أن نتصور ما الذي أعد لفرعون عظيم؛ أين ذهب تعب الكثير من الحرفيين الذين صاغوا هذه العجائب بأيديهم بمحبة؟ ضاع العرق سدى، أين ذهبت هذه الكنوز؟ لغز الماضي الحزين.
بالقرب من المخرج كان لا يزال هناك غرفة. كانت هناك رسوم دخول منفصلة، ولكن بما أنه قيل لي إنها تستحق، فقد دخلتها، تباً للوقت الذي دخلتها فيه! في تلك الغرفة كانت هناك جثث محنطة لأحد عشر فرعوناً وملكتين. كانت تعابير وجوههم أشبه ما تكون بتعابير الألم البائسة التي يلعنون بها العالم على التدنيس الذي تعرضوا له. كم انحدر الإنسان إلى أسفل سافلين حين يعرض أقدس رفاتهم كما لو كانت سوقاً مستعملة بدلاً من تبجيل أسلافه الأمجاد!
الحمد لله أن هذا الطعم المر الأخير سرعان ما تلاشى عندما وصلنا إلى باب الخروج، وأخذنا نفساً أخيراً من الجو الساحر وعدنا لنداعب أثمن الجواهر بلمحة عين سريعة. كان الخروج من المتحف في منتصف النهار تحت شمس شمال أفريقيا الحارقة أشبه بالسفر عبر الزمن بسرعة الضوء. كل هؤلاء الفراعنة الذين كنت قد أعدت خلقهم بعقلي وسمحت لهم أن يداعبوا حواسي ببذخهم أصبحوا فجأة أشباحاً شفافة ترتفع بسرعة فوق رأسي لتعود إلى ظلام تلك القاعات وحمايتها. كانوا يتركونني مع غمزة تواطؤ أرادوا بها أن يقولوا لي أن لا أقلق، وأنهم سيعودون إليّ في ظلام لياليّ، وسيسكنون أحلامي، وسيروني بعد أن عرفنا بعضنا بعضاً، سراً وبعناية فائقة، البعد الحقيقي لأسرارهم.
في عصر ذلك اليوم نفسه وجدت نفسي أمام لغز أعظم من لغز التماثيل التي رأيتها في ذلك الصباح. لغز يكشفه أنوبيس الطيب في لياليّ بلطفه المعهود. أنا أشير بالطبع إلى أهرامات الجيزة.
للوصول إليها من المتحف، الذي يقع في المنتصف على ضفاف النيل، عليك أن تعبر النيل غرباً وتتجه إلى الجنوب الشرقي، عابراً الغابة الخرسانية التي هي القاهرة، تاركاً خلفك أحياء كاملة من البيوت المتعددة الأشكال، كلها ذات تراب قديم كقاسم مشترك، ماراً بآلاف السيارات المحملة حتى التخمة بالبشر… حتى تصل إلى نقطة تنتهي فيها المدينة فجأة وتبدأ الصحراء المهيبة على بعد نصف متر.
صحراء حارسها كائن مميز للغاية: أبو الخوف، وهو الاسم الذي أطلقه العرب على أبو الهول في الجيزة. يبدو أبو الهول هذا وكأنه شيء من القصص الخيالية، يقف هناك في وسط بحر هائل من الرمال الذهبية، متكئاً بأريحية على جسد الأسد العملاق. وهي ترتدي قناعاً يحاكي رأس الملك خفرع الذي إذا أمعن المرء النظر وأطلق العنان لحدسه في المسح، فإنه يجد خلفه عينين ساهرتين تمسحان ليلاً ونهاراً اللانهائي بحثاً عن الأخطار التي قد تتربص بالكنوز التي تحرسها هذه الحارسة الطيبة، أي الأهرامات. تنتشر الأهرامات خلف تمثال أبي الهول، في خط مائل من الأكبر إلى الأصغر. أولاً خوفو، ثم خفرع، ثم خفرع ثم ميكرينوس. يبدو أن الفراعنة ظنوا أن الشر لا يمكن أن يأتي من الصحراء وأقاموا أهرامهم في الداخل، مدركين أن أي تهديد من النهر سيبعده أبو الهول بحكمة.
على الرغم من وجود العديد من الأهرامات في مصر وأماكن أخرى في العالم، إلا أنه لا يوجد أي منها يحاكي روعة هرم خوفو الأكبر. عند الوقوف عند قدميه يشعر المرء بأنه ضئيل، ضئيل، ضئيل، ضئيل، ضئيل، ضئيل، مثل حبة رمل بجوار شمس عظيمة؛ لأن خوفو يبدو بالفعل مثل الشمس. ليس فقط بسبب ارتفاعه المثير للإعجاب، ولكن أيضًا بسبب حجمه الهائل.
تقول الأسطورة إن الهرم بُني برفع منصات متعاقبة من الرمال ودحرجة الكتل المتراصة التي تزن أطنانًا على جذوع الأشجار، ولم يتوقفوا عن التفكير في أنه نظرًا لوجود الهرم بجوار مصب النيل، كان من الضروري لبناء الجانب الشمالي بناء جزء من المنصة في وسط البحر! ومن المذهل أيضًا أن نتخيل كيف نقلوا هذه الكتل الحجرية المقطوعة بدقة متناهية بحيث تتناسب تمامًا بعضها فوق بعض، من المحاجر على بعد آلاف الكيلومترات أعلى النيل. من الصعب بالتأكيد تصديق أن هذا الهرم قد شُيِّد على يد كائنات لا تزال تعيش في العصر البرونزي.
إن المغامرة داخل الهرم محنة. يبدأ الصعود في ممر بالكاد يبلغ ارتفاعه مترًا واحدًا وبميل هائل، مع عدم وجود إضاءة أو تهوية تقريبًا، ويتعين عليك أن تسير فيه بأقصى سرعة (وفقًا للمرشد، هذا أفضل). على الرغم من أنني لا أعتقد أن طول الممر لا يزيد عن خمسين متراً، إلا أنني أقسم أنه يصبح أكثر خمسين متراً قمعية في حياة المرء. يؤدي الممر إلى الرواق الكبير، وهو بنفس الانحدار والظلام، ولكن بسقف عالٍ بلا حدود (إما أنك لا تستطيع الوصول إليه، أو أنك ترتفع أكثر من اللازم). في نهاية الرواق الذي يبلغ طوله خمسين متراً أخرى، توجد حجرة الملك، وفيها…. شانتاتشان!!!! لا شيء تابوت حجري فارغ ولا شيء. لقد كان أحد هذه الأهرامات التي أخذ المهووسون بالسرقة في الماضي على عاتقهم زيارتها.
بعد عودتي من الجيزة، عبرت النيل مرة أخرى، كم هو جميل! إنه أشبه ببحر مصغر أكثر من كونه نهرًا. ففي وسط النهر توجد جزيرتان كالحصون الصغيرة التي تود أن توقف جريان المياه حتى يتمكن القاهريون الجالسون على ضفتيه من الاستمتاع بمشاهدة هذا المنظر الجميل. على الرغم من أن وجود جزيرتين قد يذكرنا عن بعد بالجزر الباريسية على نهر السين، إلا أن نحاتة العالم قررت هنا أن ترمي البيت من النافذة، وأن تستكشف ما في قلبها وتنسى المفاهيم المحددة مسبقاً. لقد ابتكرت نهرًا كبيرًا لدرجة أنك من إحدى ضفتيه لا تستطيع رؤية الضفة الأخرى، وجزيرتين ضخمتين لدرجة أنك إذا مشيت على طولهما تعتقد أنك على أكثر الأراضي صلابة.
مشيت، مشيت، مشيت، مشيت، والآن على أرض صلبة جيدة، أخذتني قدماي إلى ”جان الجليلي“، المركز الحضري في العصر الإسلامي، وهو اليوم حي شعبي. في البداية تجولت في الشوارع الضيقة، وأعددت نفسي للتسوق السياحي، وجلست في أحد تلك المقاهي الساحرة في الهواء الطلق، كيف أصف الناس! نظرات الرجال الثاقبة؛ واتهامات النساء المحجبات الصامتة لمن تتجرأ على الخروج مكشوفة الرأس… والأسوأ من ذلك من تتجرأ على صبغ شعرها باللون الأشقر؛ والأطفال الذين يبيعون كل ما يمكن بيعه (مناديل ورقية، وسور قرآنية…)؛ والمرأة التي تجمع على قارعة الطريق البضائع التي يمكن بيعها…. )؛ المرأة التي تجمع الفول السوداني الذي يتركه الآخرون على الطاولات؛ الجدّ الذي يحمل الهارمونيكا وعلبة أعواد الثقاب المهترئة؛ الشيشة، تلك النرجيلة التي تغني على الماء والتي لا يستطيع تدخينها سوى رجل، وبطريقة معينة، ومع كل نفخة يعزز دوره المتغطرس. كل هذا متبّل بسحر البخور الذي يمرّ على المباخر المتأرجحة المتجولة، والياسمين الذي يمرّ على بائعي القلائد العطرية، والمانجو الذي يفيض على كل الأكشاك ورائحة النعناع الطازج (النعناع) الزكية التي تضاف إلى الشاي.
قررت الذهاب للبحث عن الجزء الذي كنت أعرف أنه لا يزال قائماً من الأسوار القديمة. كانت لا تزال هناك بوابتان ضخمتان للمدينة بأبراجها الحجرية المتصلة بقطعة من السور. إلا أن ما أثار إعجابي لم يكن الأسوار بقدر ما كان المنطقة التي اضطررت للسير فيها للوصول إلى هناك. فخارج الجزء المرتب من الحي، بدت الشوارع خارج الحي الأنيق وكأنها توازن بين الأضداد؛ فبجانب الواجهات الجميلة لقصور القرون الوسطى ذات المشابك الخشبية المصنوعة بدقة متناهية كانت هناك مدن الصفيح المتهالكة، وبجانبها مساجد قديمة أو مدارس قرآنية بمآذنها الجميلة والمزخرفة. وكم رأيت من الفقر! أطفال حفاة الأقدام، أطفال مشوهون، أناس على حافة البؤس…. لكن كم من الابتسامات الرائعة التي أرسلوها لي! كم من البهجة وكم من الرغبة في الحياة! في أماكن كهذه يدرك المرء أن السعادة تنبع من الداخل، من أعماقه، وأنه مهما كانت حياتهم مليئة بالمشقة ومهما كانت شوارعهم قذرة أو قذرة إلا أنهم يملكون القدرة على جعل تلك السعادة تتدفق في كيانهم حتى تأخذ شكل ابتسامة.
بحار الصخر الأحمر
الآن تخيلوا أن النبض يتخدر والبوصلة تدور. يتم نقل المرء (في حالتي بالحافلة العامة) فوق المياه التي تشكل المصب الهائل لنهر النيل، ما وراء قناة السويس إلى قلب صحراء سيناء. ولإعطائك فكرة عن شكل هذه الصحراء، فكر فيها على أنها مستطيل ذو لونين، نصفه الشمالي الغربي عبارة عن كثبان ترابية صفراء والنصف الآخر عبارة عن جبال ترابية حمراء ضخمة. أعتقد أن أكثر ما يثير الإعجاب في هذه الصحراء هو تناقضاتها. فمن خلال القيادة على طول الطريق الذي يضم كتلة زرقاء خضراء من المياه الهادئة الهادئة المترددة على جانب واحد وكتلة مغرة من الرمال الموحشة على الجانب الآخر، تمر فجأة بين سفوح جبال الحجر الجيري الأحمر الشاهقة التي ترتفع بعنف من العدم وتسعى جاهدة للوصول إلى السماء. وتمر عليك لحظة من تلك اللحظات التي يسكت فيها جمال البيئة المحيطة بك العقل ويحرر القلب من قيوده.
في القرن السادس، قرر الرهبان الأرثوذكس اليونانيون بناء دير عند سفح جبل سيناء التاريخي، وأطلقوا عليه اسم القديسة كاترينا. وعلى مرّ القرون حفر الرهبان بصبر في الصخر ثلاثة آلاف وثمانمائة درجة تؤدي إلى القمة. وحتى اليوم، يمثل الرهبان الثلاثون أو نحو ذلك الذين لا يزالون يسكنون هذا الدير المحصن العلامة الوحيدة للحياة البشرية على بعد أميال من هنا.
تركت حقيبة ظهري الثقيلة في الدير وبدأت الصعود. هناك خياران: إما أن تصعد السلالم، وهو أكثر مباشرة، ولكنه في الوقت نفسه أكثر مشقة، أو أن تسلك طريقاً صغيراً يتخطى الجبل ويتعرج إلى أعلى منحدره الشرقي، وهو أطول ولكن يسهل الوصول إليه. ماذا فعلت؟ الخيار الأخير بالطبع. قيل لي أن التسلق يستغرق حوالي أربع ساعات، وبما أنني أردت رؤية غروب الشمس من الأعلى، قررت، على الرغم من شمس الظهيرة الحارة، أن أبدأ التسلق بعد الغداء.
ها أنت تراني أتسلق وأنا مختنق بالهواء الكثيف الذي ملأ الوادي والشمس الحارقة التي كانت تلعب في انعكاسها على الصخور. كنت نقطة صغيرة منعزلة وسط عظمة الجبال المحيطة؛ بقعة متحركة في وسط ذلك البحر الساكن من الحجارة الحمراء. وبينما كنت أترك زوايا الطريق وأركانها خلفي وأصعد إلى أعلى، كنت أشعر بالهواء يزداد خفة وخفة وانتعاشاً وانتعاشاً. شعرت أن روحي تمتلئ أكثر فأكثر بشعور لا يوصف بالحرية. كانت فرحة لا اسم لها قد استحوذت على قلبي المتسارع. بدا لي أن كل نبضة كانت تريد أن تشجعني على عدم التعثر، وكان صوت ”كدت أن أصل، كدت أن أصل، كدت أن أصل“ يرن على صدغي. إما أن أكون قد أوشكت على الوصول أو أوشكت على الوصول، لذا كان الخفقان صحيحًا تمامًا.
وصل الطريق إلى نقطة يعبر فيها مضيقًا ضيقًا، ويمر إلى الجانب الشمالي من الجبل وينضم إلى السلالم، ولم يكن هناك سوى سبعمائة أخرى للصعود! غير أن الطريق من القول إلى الفعل طويل، وعلى الرغم من أنه يبدو تافهًا، فقد استغرقني الله وعونه لصعود ما يقرب من ألف درجة. لم أكن أعتقد أنني سأفعلها، لكنني فعلتها أخيرًا، يا للهول! وصلت، وأعتقد أنني لم أستغرق حتى جزءًا من الألف من الثانية لأنسى كل ما أصابني من علل بسبب جمال المناظر الطبيعية من حولي. فأينما نظرت، كان المنظر يضيع فوق سلاسل لا نهاية لها من الجبال التي اكتست شيئاً فشيئاً في ضوء المساء مسحة قرمزية.
كنت لا أزال في الوقت المناسب لأستريح قبل أن أشاهد الشمس تغرب… كان هناك أربعة منا نحن القطط في الطابق العلوي، فعرّفنا أنفسنا وجلسنا في دائرة. أحضرتُ بطيخة (يجب أن تكون متفائلاً كي تتسلق جبلاً يبلغ ارتفاعه ألفين وثمانمائة متر ومعك بطيخة)، وأحضر بعض الألمان خبزاً وجبن مالح وخيار، وأحضر فرنسي بسكويتاً، فتشاركنا جميعاً وكان عشاءً مثالياً.
كانت مشاهدة غروب الشمس مشهداً جميلاً. كان صمت القبر يمد الروح بالهدوء الكافي لتتمكن من وضع كل طاقتها في توديع الشمس التي كانت تغادرنا. الشمس التي كانت تداعب بأشعتها الأخيرة بحنان قمم الجبال وكانت مثل عصا سحرية تحوّلها إلى اللون الأزرق، ثم تتحول شيئاً فشيئاً إلى اللون البنفسجي الداكن الذي كان يطمس معالمها شيئاً فشيئاً حتى يطمسها في سواد الليل.
كان النوم مسألة أخرى. ترك لي بدوي كان يملك مقهى صغيرًا بالقرب من القمة بعض البطانيات. أقنعتُ رفقاء عشائي بأن يكونوا بمثابة دروع جانبية لي، وهناك استلقينا على الصخور الصلبة. كنتُ أنظر إلى السماء، وكان إلى جانبي رجل فرنسي من جهة وألمانيان من جهة أخرى، في حماية كريمة الاتحاد الأوروبي. وبما أنني لم أكن أعتقد أنني سأستطيع النوم بسبب البرد، وهو ما حدث بالفعل، قررت الاستمتاع بالمنظر. كانت السماء صافية لدرجة أنه كان بإمكانك رؤية أحشاء الكون. ولأول مرة في حياتي استطعت أن أرى مجرة درب التبانة بوضوح… مثل سحابة جميلة. بين الحين والآخر كانت النجوم تتساقط بجنون وتبدو وكأنها تتساقط بجنون، ثم تبدأ النجوم في التساقط ولم يكن لدي الوقت الكافي لأتمنى الأمنيات بالسرعة التي كانت عيناي تلتقطها بها.
في حوالي الساعة الرابعة صباحاً بدأ الناس يتوافدون. كان بإمكانك أن ترى أضواء الفوانيس الصغيرة تتعرج في هواء الليل الأسود، وكان بإمكانك أن تسمع جميع أنواع اللغات… حتى أنه كان هناك مجموعة من الكوريين الذين كانوا يغنون ويصلون ويصلون ويصلون بشكل جماعي لفترة من الوقت. مع هذه ”الصحوة الملائكية“ انطلقت لمشاهدة شروق الشمس. يا لها من صدمة عندما نظرت حولي ورأيت حشدًا من الناس يحيطون بي. بدا الأمر كما لو أن قطط الليلة السابقة قد ولدت. في هذه الظروف، اضطررت إلى القتال من أجل قطعة صغيرة من الصخور لأريح عليها مؤخرتي، وعلى الرغم من جمال شروق الشمس، إلا أنه لم يكن له سحر الغروب السابق. كان الأمر مضحكا، مئات الأصابع التي ترتكز على مصراع الكاميرا لالتقاط لحظة تحدث كل يوم، لكننا عادة ما نتجاهلها.
هذه المرة سلكت الطريق القصير. ”قصير“، لكنه مكثف. بعد ذلك، أمضيت نصف يوم وساقاي ترتجفان من كثرة السلالم. بعد زيارة الدير من الداخل، استقليت سيارة أجرة مشتركة مع سياح آخرين إلى خليج العقبة. جلست في المقدمة وتحدثت طوال الطريق مع سيد، السائق، وهو شاب بدوي ذو ملامح جميلة، كانت بشرته التي سمّرتها شمس الصحراء القاسية بشدة لها بريق التمر الناضج. مررنا بالوادي الذي خلفته جبال سيناء الشاهقة بأشكالها وأحجامها الرائعة: حجارة العقيق التي يسبقها بحر من الرمال، وكتل ضخمة من الحجر الجيري المغرة التي تآكلت بفعل الرياح. وسرنا في امتداد محاط بأشجار النخيل البري، وكثير منها ذات الأغصان الخمسة والستة … حتى إذا ما خرجنا فجأة من منعطف، أمكننا أن نرى البحر.
حول بحر العقبة
يتمتع خليج العقبة بمياهه الصافية بسحر خاص. تخيل سلسلتين جبليتين شاهقتين على شكل عين مفتوحة. كلا الجفنين العلوي والسفلي عبارة عن جبال حمراء ضخمة. أعلاها نصفها بعلم سعودي ونصفها الآخر بعلم أردني، وأسفلها كلها مصرية. بينهما بركة جميلة من الدموع. بركة يتغير لونها على مدار اليوم: من الأزرق الرمادي عند الفجر إلى الأزرق المخضر في منتصف النهار والأزرق الوردي عند الغسق.
وعند الغسق بالتحديد تنزل الأرواح التي تعطي الجبال لونها لتستحم في البحر وتغزوه بطريقة يخيل للمرء أنه يجد نفسه أمام بحر أحمر هائل؛ ونحو هذا البحر بالتحديد تتدفق مياه العقبة الهادئة من زاوية العين.
إن إرث بحر العقبة هذا هو بحر إيلات، تلك الكيلومترات الثلاثة من الساحل الذي ينبغي أن يكون ملكاً لفلسطين والذي كان في أيدي الإسرائيليين منذ حرب الأيام الستة.
من المضحك، في البداية، كانت الفكرة التي غادرت بها إسبانيا هي الذهاب مباشرةً من القاهرة إلى نيويورك واستقلال العبّارة. إلا أنني كنت قد التقيت على طول الطريق بالعديد من المسافرين الوحيدين مثلي الذين أخبروني عن تجاربهم ومغامراتهم، وقد أجمعوا جميعاً على جمال شواطئ البحر الأحمر الذي لا يضاهيه جمال والكنوز المخبأة في أعماق ذلك البحر. لذا قررت أن أتمهل في رحلتي وأحاول أن أؤيد هذه القصص بتجربتي الخاصة.
وفي الطريق إلى نويبع، وبعد أن ازدادت ثقتي بسيد أخبرته بفكرتي وذكرت له أسماء الشواطئ التي أوصاني بها. نظر إليّ بريبة وهو يواصل قيادته السريعة وأخبرني أن تلك الشواطئ التي قيل لي إنها للسياح وعرض عليّ أن يريني مكانًا آخر. وبما أنه لم يكن لدي ما أخسره، فقد قبلت.
وصلت سيارة الأجرة إلى نويبع، المدينة الساحلية المصرية التي تنطلق منها العبارات إلى ميناء العقبة الأردني. اسم ”المدينة“ هو تقليل من شأنها، فهي ليست أكثر من مجموعة من البيوت الصغيرة والأكواخ التي كانت ذات يوم بيضاء مبيضة بالبياض، ولكنها بمرور الزمن أصبحت غارقة في دهن محيطها. بعد أن تركت الفرنسيين الثلاثة الذين كانوا يرافقوننا، واصلت رحلتي وحدي الآن مرة أخرى.
اصطحبني سيد إلى نجويما، وهي جيب صغير به بضعة أكواخ صغيرة مصنوعة من القصب وسعف النخيل وشاطئ فردوسي. أعارتني بعض الفتيات الإسرائيليات اللاتي استأجرن أحد الأكواخ زوجًا من نظارات الغوص وانطلقنا! على بعد أمتار قليلة من الشاطئ استطعت بالفعل رؤية التشكيلات المرجانية. لم أرها عن قرب من قبل. في الغلاف الجوي الشفاف تحت الماء بدت الشعاب المرجانية مثل شتلات خيالية. كانت مغلفة بطبقة زرقاء ناعمة أضفت على ألوانها لمسة خاصة غير واقعية. بدا بعضها، ذو اللون الأحمر القاني، وكأنه يحتل مكانًا متميزًا، بينما أعطت تلك الوردية أو البيضاء انطباعًا بأنها أضعف وأكثر عرضة للجروح. وشكلت جميعها معاً غابة شاسعة مشحونة بتوازن صامت.
بعد ظهر ذلك اليوم، عندما كانت أطرافي قد أعيد شحنها بقوة البحر المنشطة لها، قررت أن أواصل طريقي. سرت شائعات في نجعيمة أنه أصبح من الممكن الآن العبور من إيلات إلى العقبة، وأن المعبر الحدودي الجديد قد افتتح. حاولت التأكد من صحة هذه الأقاويل، لكن لم يستطع أحد نفيها أو تأكيدها، فقررت أن أتأكد بنفسي.
خرجت إلى الطريق لأبحث عن وسيلة للتنقل، وبالصدفة ظهر ”سيد“ بسيارة محملة بالسياح مرة أخرى. أخبرني أنه سيأخذهم إلى طابا. سألته إن كان يمانع في أن يوصلني أنا أيضًا وركبت سيارة الأجرة المتهالكة المتهالكة.
يمر الطريق بمحاذاة البحر، ملتفاً حوله. المياه زرقاء، صافية كالكريستال، نقية كالكريستال، شفافة كالكريستال، وعلى جانبيها جبال ضخمة. في كل مرة ينحني الطريق بين الجبال ونتجه نحو البحر، يبدو لي وكأننا سنضيع في أمواجه.
وصلنا إلى طابا. بالحديث عن طابا، ولكي أعطيكم إحساساً بالمكان، هل تذكرون أنني قلت لكم سابقاً، ولا يخلو الأمر من بعض السخرية، أن خليج العقبة ينتهي في إحدى ليجات إسرائيل، مدينة إيلات؟ حسناً، إن معقليها الحارسين هما طابا في مصر والعقبة في الأردن. فعلى مسافة عشرة كيلومترات من الساحل تقع ثلاث مدن تنتمي إلى ثلاث دول مختلفة لم يكن التعايش بينها على مر السنين سهلاً على الإطلاق.
في طابا، التي لا يوجد بها أكثر من عشرين منزلاً وبضعة فنادق وبضعة فنادق أخرى قيد الإنشاء، اصطحبني سيد مباشرة إلى الحدود. سألت رجال الشرطة المصرية عما إذا كان من الممكن العبور من إسرائيل إلى الأردن، لكنهم لم يتمكنوا من إخباري، فطلبت منهم أن يسمحوا لي بالمرور إلى النقطة الإسرائيلية دون ختم جواز سفري وأنني سأعود على الفور. نظروا إليّ مرتبكين بعض الشيء، لكنني توسلت إليهم بلهجة حزينة، فسمحوا لي بالمرور.
كان المركز الحدودي الإسرائيلي على بعد خمسين مترًا. اضطررت إلى تغيير السجل: لا مزيد من العربية، والآن الإنجليزية. كان الجندي المناوب على وشك أن يأخذ جواز سفري من يدي ليختمه، عندما قلت له لا، ”جئت فقط لأسألك سؤالاً“. رفع رأسه ونظر إليّ بحيرة. “إذا عبرت من هنا إلى إسرائيل، هل يمكنني بعد ذلك الذهاب إلى الأردن؟ ”لا“. ”ولا يمكنني حتى أن أمشي ثلاثة كيلومترات إلى العقبة وأدخل“. هذه المرة بدا الرجل الصغير غاضباً إلى حد ما. ”لا يمكنك ذلك“. “حسناً، لا تغضب. شكراً لك. إلى اللقاء. وغادرت من الطريق الذي جئت منه، وسط نظرات زميلي المندهشة. لم تمضِ أيام قليلة بعد ذلك، عندما كنت في عمّان، حتى فتحوا لي معبر العقبة – إيلات الحدودي الشهير. وصلت قبل خمسة أيام من الموعد المحدد.
كان الظلام قد حلّ. كنت في طابا. ولكي أصل إلى الأردن، لم يكن أمامي خيار سوى أن أعود أدراجي وأعود إلى نينوى للحاق بالعبّارة. لكن لم يكن هناك سوى عبّارة واحدة في اليوم وكانت تغادر في منتصف الظهيرة. لم يعد أمامي وقت للحاق بها، فماذا أفعل؟ ذهبت إلى المكان الذي تركني فيه ”سيد“، ومن دواعي سروري أنه كان لا يزال هناك. شرحت له موقفي فعرض عليّ المبيت بجوار بستان نخيل قريب من الشاطئ، حيث اعتاد هو وبعض الأصدقاء على ما يبدو المبيت هناك كلما اضطروا للمبيت بالقرب من طابا. وبما أنه من الأفضل معرفة الرجل السيئ من الرجل الجيد.
في الطريق إلى بستان النخيل، أقنعته بالتوقف بجوار مكان لفت انتباهي عندما مررنا به في المرة السابقة. كانت جزيرة جميلة في وسط البحر، مسوّرة بأسوارها كلها، وفيها بحيرات طبيعية داخل الأسوار، وعلى قمتها قلعة صلاح الدين الأيوبي المهيبة التي بنيت في القرن الحادي عشر لتكون معقلاً ضد الصليبيين. بدت القلعة في ضوء غروب الشمس الأزرق الوردي وكأنها قلعة أمير من قصة خيالية.
تركني سيد على الشاطئ بجوار بستان النخيل. أخبرني أنه ذاهب للتزود بالبنزين وشراء بعض الطعام وأنه سيعود على الفور، ”لا تتحرك من هنا“. وانطلق. جلستُ على الرمال بجانب البحر وبدأت أراقب كيف تلعب أرواح الغروب في تلوين المياه. مرّ الوقت، وحلّ الظلام، ولم يعد ”سيد“. ثم أدركت أنه ترك حقيبة ظهره في سيارته. وبما أنه لم يكن لدي أي فكرة عن مكانها، كان الشيء الأكثر منطقية هو الانتظار. ففعلت ذلك. حاولت أن أهدأ وأطرد من ذهني كل أفكار الخوف والقلق التي كانت تقاتل من أجل غزو قلعتي الداخلية. ناديت البحر طلباً للمساعدة وهدأت.
وفجأة رأيت من بعيد على الشاطئ شخصًا يتحرك في اتجاهي. كنت أود لو أن الملائكة نزلت في تلك اللحظة من السماء وانتشلتني من بين يديّ، أو لو أن الأرض انفتحت وابتلعتني. كان الشكل البشري يقترب. ببطء. ببطء شديد. شيئاً فشيئاً استطعت أن أتبين ملامحه. كان رجلاً في منتصف العمر، ومن مظهره يمكنني القول إنه بدوي. أعتقد أن الرجل المسكين كان مندهشًا أكثر مني لرؤية سائح تائه في مكان مجهول.
اقترب مني بلطف شديد ورسم ابتسامة على وجهه وكأنه يكسر جليد اللقاء الأول. شعرت بابتسامته أكثر من مجرد رؤية ابتسامته، فقد أحسست بها وهي تزداد قتامة وظلمة. ”أهلين“. “أهلين أهلاً به وأهلاً بي. عرّفني بنفسه: إنه بدوي وصياد سمك، وكان على الشاطئ يصطاد السمك مع بعض الأصدقاء. قلت له من أنا وقلت له إنني أنتظر سائق التاكسي الذي ذهب ليضع البنزين. “عربي أم بدوي؟ قلت بدوي. ”إذن سيعود“. على أي حال، قال لي أنه إذا أردت يمكنني الذهاب إلى هناك والجلوس معهم حيث كان لديهم الشاي والطعام. فشكرته ووافقت على أنه إذا لم يأتِ سيد، فسأذهب إليه. عندما همّ بالمغادرة، أخبرني أن سائق سيارة الأجرة لم يسلك اتجاه محطة البنزين بل عكس ذلك، وكأن الأمر كان مصادفة، فارتبتُ في الأمر! بعد فترة من الوقت قررت الاقتراب منه وشربنا شايًا لذيذًا بجانب نار المخيم.
عندما وصل ”سيد“ بعد فترة، استغرقني الأمر بعض الوقت لأعود – والآن دعه ينتظر! سألني أين كنت، فأخبرته أنني كنت مع بعض الصيادين. “وأنت؟ ”ذهبت لجلب البنزين والطعام“. صمت. كان من الأفضل أن ألتزم الصمت ولا أفتش في المكان، فجلست على البطانية التي فرشتها على البحر وتناولنا العشاء. بعد العشاء استلقينا هناك وتحدثنا لفترة طويلة. أخبرني أنه يخاف من النساء ولهذا السبب فضّل النوم في السيارة. قال: ”لا تقلق، فأنا أنام تاجتا أنويوم“ (أي: تحت النجوم).
ثم، لا أدري كيف تلامسنا بالأيدي وكان إحساساً جميلاً جداً ولكنه غريب جداً، لماذا فعلت ذلك لماذا فعلت ذلك؟ -سألني ضميري. قلت: ”لا“. ”إذن لا تلعب“ – وبّختني. لكن في بعض الأحيان يصعب أحيانًا عدم الانجراف في اللعب. بعد كل شيء، كل ما كانت أيدينا تتبادل الحديث مع مداعباتها.
جاء النوم شيئًا فشيئًا. هدأني صوت أمواج البحر، والنسيم العليل، وبريق الشهب التي تمكنت عيناي المتعبتان من إدراكها بعد جهد جهيد تمكنت من فتحها، ومداعبات رجل الصحراء… غلبني النعاس في الليل فنمت.
أيقظني صوتي الداخلي قبل أن تشرق الشمس من وراء الجبال السعودية… وجلست على الشاطئ في وضعية اليوغي منتظراً الشمس… وقبل شروقها بقليل، جاء سيد من الخلف وغطى عيني…. جلس بجانبي. تناولنا بعض المانجو على الإفطار وانطلقنا! كان عليّ أن أرتدي الكوفية (حجاب) لعدة كيلومترات، حيث كانت هناك مراكز للشرطة ولم يكن مسموحًا للأجانب بالنوم على الشاطئ. بالحجاب وبسرعة السيارة، كنت أبدو بمظهر جيد.
وبمجرد وصولي إلى نويبع، بحثت دون جدوى عن الكشك الصغير الذي يبيعون فيه التذاكر. كل إشارة تلقيتها قادتني إلى مكان مختلف. في النهاية وجدته بفضل أحد الاسكتلنديين، لكنهم كانوا قد أغلقوا للتو. جلستُ أنتظر في أحد تلك القضبان الصغيرة المتهالكة في ظل سقف شجرة نخيل يحميني من الشمس. بعد أن حصلت على التذكرة بالدولار، عدت سيراً على الأقدام عبر البلدة الصغيرة إلى مجمع الميناء. كان جميع العرب المساكين يصطفون في طابور لا إنساني، وكان الغويريون كالوزراء يمرون دون طابور. اكتشفت أن العبّارة ستغادر متأخرة. إذا كان هناك شيء واحد تحتاجه في العالم العربي فهو الصبر.
استفسرت عن المصير النهائي للعرب المساكين الذين كانوا يرتدون ملابس بالية ويعاملهم الحراس بازدراء شديد. كانوا مصريين متواضعين يذهبون إلى السعودية كعمالة رخيصة. وعندما سألت لماذا لم يستقلوا عبّارة مباشرة إلى الجزيرة العربية، بل ذهبوا عبر الأردن، قيل لي إن العبّارة إلى الجزيرة العربية تستغرق خمسين ساعة، مساكين!
عندما صعدتُ إلى العبّارة، قطعتُ الرحلة بأكملها على سطح العبارة، وهو أمر ممنوع على النساء، فكنت الوحيدة وسط حشد من الرجال. كنتُ متكئة على السكة الغربية أراقب الشمس وهي تغرب خلف الجبال المصرية. الأزرق في الشفق. كان جوردي، وهو عالم آثار ساحر تحت الماء من جيرونا كنت قد التقيت به للتو، معي. وفي نفس الوقت الذي كان يلعب فيه دور الحامي الخفي لنظرات الفضوليين والمصريين المستهجنة في الوقت نفسه، كشف لي الأسرار التي اكتشفها في مغامراته العديدة تحت الماء في هذا البحر الجميل. يبدو أن هناك الكثير من أسماك القرش! من الجيد أنني لم أكتشف ذلك في وقت سابق، وإلا لما كنت سأسبح.
خلال الرحلة، التقينا بمحمد، أحد كبار بحارة السفينة، الذي دعانا للإقامة في منزله إذا ذهبنا إلى عمّان. وبفضله، حظينا بإطلالة مميزة على المرسى، بما في ذلك مناورات الربان.
في الميناء دفعنا رسوم التأشيرة. والغريب أنها تختلف من بلد إلى آخر، فبينما يدفع الألمان حداً أدنى رمزياً، يدفع الإنجليز الكثير. أما الإسبان فهم في المنتصف، لا هذا ولا ذاك. ثم عند بوابة الميناء كان هناك طابور طويل جدًا من الرجال الذين يتم تحميلهم على الشاحنات، مثل الماشية، وهي نفس الشاحنات التي كانوا يرسلونها إلى المملكة العربية السعودية.
وبما أن الظلام كان قد حلّ بالفعل، قررنا قضاء الليلة في العقبة، في فندق صغير في وسط المدينة. قررنا أن نذهب في نزهة على الأقدام، حتى قادتنا خطواتنا أثناء تجولنا في الليل إلى الشاطئ. كان هناك الكثير من الناس يجلسون حولنا، عائلات بأكملها ومجموعات من الشباب. وعندما مررنا ببعض الأطفال رحبوا بنا وجلسنا معهم. كانوا في الغالب طلاباً من شمال الأردن. وجدتهم أناساً رائعين، حساسين جداً ومهتمين بالعالم، ولديهم الكثير من الكرامة الإنسانية. وعلى الرغم من اشتراكهم في اللغة مع المصريين، إلا أنهم كانوا مختلفين. فبينما كان العديد من المصريين الذين قابلتهم غير قادرين على التحدث باللغة العربية الفصحى بشكل صحيح، كان الأردنيون قادرين على ذلك تمامًا. كانوا ببساطة يسعدني التحدث معهم.
في الساعة الواحدة صباحًا جاءت الشرطة لتخبرنا بأدب شديد أنه ممنوع التواجد على الشاطئ بعد ذلك الوقت وغادرنا. وعندما وصلنا إلى منتصف الطريق، لحق بنا رجال الشرطة مرة أخرى واعتذروا لنا…. أن بإمكاننا الذهاب إلى أي مكان نريده وأنهم سيرافقوننا حتى لا يزعجنا أحد. كنا ممتنين لاجتهادهم. كان علينا أن نصرّ على أننا كنا متعبين حقًا ونريد أن نخلد إلى النوم، حتى يرتاحوا ويذهب تأنيب ضميرهم. غفوتُ في نومٍ هنيءٍ هَزَّني التفكير في مدى جمال الأردن! أجمل لغة… أجمل الرجال… وأجمل الرجال… وأكثر الناس ثقافة. ومع ذلك لم أكن قد اكتشفت بعد كل الجيوب السرية الرائعة في هذا البلد الجديد.
البتراء
في صباح اليوم التالي غادرنا إلى البتراء. كنا خمسة أشخاص في الحافلة: جوردي وثلاثة فرنسيين وأنا. كانت المناظر الطبيعية أكثر كتمانا من تلك الموجودة في سيناء. على كلا الجانبين كانت هناك جبال ذات لون أبيض مائل إلى الحمرة والمغرة، ليست شديدة الانحدار، أكثرها صخري مع بعض الأحراش المتناثرة. كانت المنازل في القرى التي مررنا بها تشبه إلى حد ما تلك الموجودة في تونس، مربعة الشكل، إما حجرية أو إسمنتية، ومطلية باللون الأبيض عموماً.
وصلنا إلى وادي موسى وبحثنا مباشرة عن فندق. تمكّنتُ من الحصول على سعر رائع بالمساومة؛ الأولاد الأربعة في غرفة وأنا في غرفة أخرى بمفردي. تركنا حقائب الظهر الخاصة بنا وتم نقلنا بالحافلة الصغيرة من الفندق إلى مدخل آثار مدينة البتراء.
بدأنا السير على الأقدام. في البداية كانت هناك مساحة ضخمة مفتوحة مليئة بالخيول والحمير…. بدا الأمر كما لو كان هناك الآلاف من السياح (ولحسن الحظ لم يكن الأمر كذلك… أو ربما كان الأمر كذلك، لكن المكان كبير جداً لدرجة أنك لا تشعر أبداً بالاكتظاظ).
بعد اجتياز الحقل المفتوح، دخلت من خلال مصب المضيق. لطالما أردت أن أذهب إلى البتراء، لكنني لم أتخيل أبدًا أن تكون جميلة كما كانت بالفعل… ذلك المضيق الفخم المهيب الذي يضيق أكثر فأكثر كلما اقترب مني، مع أشجار التين التي تنمو بشكل ساحر بين الصخور، صخور ذات تنوع لوني مذهل، بألوانها التي تتراوح بين الأسود والأبيض، مروراً بالرمادي والأزرق والأخضر والوردي والأحمر والأصفر.
على الجانب الأيسر من الطريق على وجه الخصوص، ظهرت من وقت لآخر، من وقت لآخر، معابد صغيرة مربعة منحوتة في الصخر، وعموماً كان هناك عمودان صغيران وعتبة بسيطة تربط بينهما. وكما اكتشفت فيما بعد، كانت هذه هي البيوت التي بناها الأنباط لآلهتهم. وكان كل معبد صغير يضم معبداً صغيراً لإله.
كان الممر الجميل يؤدي إلى الخزنة، معبد الألوان الأربعة: الوردي الفاتح عند الفجر، والمغرة عند الظهيرة، والبرتقالي بعد الظهر، والوردي الفاتح عند الغروب…. ألوان الحجارة المتغيرة رائعة! يبدو الأمر كما لو كان الهواء متنكراً في شكل مشكال يتلاعب بالمرايا والأشياء ليأسر حواس الناظرين. كان هذا المعبد منحوتاً بالكامل، منحوتاً من الصخر، أعمدة وتيجاناً وأعتاباً وأعتاباً وأقواساً وأفاريز وأكروتيريات وطبلات، كل شيء، كل شيء على الإطلاق، منحوت من الصخر، دون إضافة واحدة. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو التفكير في أن الأنباط، تلك الحضارة السامية العظيمة التي سكنت هذه الأرض قبل المسيح بعدة قرون، كان بإمكانهم امتلاك تقنية نحت هذه العجائب من الصخور. ويا لها من سقوف! لقد صنعت الصخور فيها فسيفساء طبيعية ذات ثراء لوني مذهل.
تبدأ المدينة في خزنة. وأخذ المضيق يتسع شيئاً فشيئاً حتى أصبح شارعاً عريضاً لا تستطيع العين أن تستوعب كل شيء، فقد كان على اليمين واليسار معابد جميلة وقبور رائعة ومنازل رائعة وغير ذلك. كلها منحوتة من سفوح هذه الجبال. أمضيت الوقت كله وأنا ألتقط الحصى الملون من الأرض، كما لو كنت قد وقعت فريسة لتعويذة.
قادني الطريق إلى المدرج الروماني الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي عندما أخضع تراجان شعب الأنباط. بعد المدرج جاءت سلسلة أخرى من أطلال المعابد والأسواق الرومانية. وللأمانة، يجب أن أعترف بأنني لم أنبهر: كيف يمكن أن نفسر أنه لم يتبق من المعابد الرومانية سوى بضعة جدران معزولة بالكاد وبقيت المعابد النبطية الأقدم بكثير محفوظة بشكل كامل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكنني أن أتفادى أن تعميني روعة الآثار النبطية إلى حد يجعلني غير قادر على تقدير أي مثال آخر من الفن تقديراً منصفاً؟
كان الجزء الأصعب لم يأتِ بعد. تسلق بعض الممرات شديدة الانحدار لعدة كيلومترات. قالوا إنه في نهاية الطريق، هناك في الأعلى، كان هناك الدير، وهو أعظم الإنشاءات النبطية. إذا كان الأمر كذلك، كان علينا المضي قدمًا. وأخيراً، وصلنا: ”أولحمد الله“ (بالمسيحية: الحمد لله). كان الدير رائعاً. كان ذا أبعاد مثيرة للإعجاب، وكان له خصوصية أنه يمكنك الصعود إلى إفريزه عن طريق تسلق جانب الصخرة. يا له من شعور بالامتلاء والحرية! يا لها من فرحة أن تكون قادرًا على الاستراحة على مثل هذا العمل الهائل! من الأعلى يمكنك رؤية جميع معابد البتراء من بعيد، وهي صغيرة كصناديق حمراء صغيرة.
في الطريق إلى الأسفل أردنا أن نرى الآثار المتبقية… وتُهنا… مشينا حوالي عشرة كيلومترات حتى وصلنا إلى خيمة بربرية ضخمة حيث قدموا لنا بعض الشاي… كم هذا لطيف! كانت السيدة المسكينة أرملة ولديها ستة أطفال. نساء البربر مثيرات للفضول؛ فالكثير منهن فقدن العديد من أسنانهن والبعض الآخر من الذهب الخالص، كما أن وجوههن موشومة بالكامل بعلامات تهدف نظرياً إلى تجميلهن. أقول من الناحية النظرية، لأنها من الناحية العملية صادمة.
حاولنا الاستفسار عما إذا كنا نسير على ما يرام فقيل لنا إنه كان علينا أن ننعطف يساراً منذ وقت طويل. في النهاية، بعد الكثير من التوسلات، تمكنت من إقناع الابن الأكبر بمرافقتنا حتى نجد طريق العودة، لأنه على الرغم من أنه شرح لي الأمر ثلاث مرات، إلا أنني لم أفهمه تمامًا…. إنه لأمر جيد أنه جاء وإلا كنت سأرى أننا في تلك الطرقات الصغيرة حتى يوم القيامة. كان الابن الأكبر في الواقع في السابعة عشرة من عمره وكان سيتزوج في العام التالي. إنه لأمر مدهش كيف يتزوج الشباب هنا. لقد بدأت أبدو كبيرًا في السن بالنسبة لهم… وعندما أقول أن الناس في إسبانيا يتزوجون في سن الثامنة والعشرين أو الثلاثين، تبدو عليهم علامات الرعب.
بالعودة إلى ”بوين سندرو“، مررنا بـ”تريكلينيوم“ الروماني. بعد ذلك بدأ الصعود مرة أخرى. في إحدى نقاط الهبوط كانت نافورة الأسد الشهيرة، التي لم تكن أكثر (ولا أقل) من أسد ضخم منحوت في الصخر، وكأنه يخرج منه، والماء يدخل من أنبوب في ذيله ويخرج من فمه… في يومه. أما الآن فقد كان جافاً.
وفي قمة الصعود كانت هناك منصة ضخمة، هي صخرة القربان التي كان الكهنة الأنباط يقدمون عليها الحيوانات قرابين لآلهتهم. اليوم لم يعد هناك المزيد من الدماء، ولكن هناك منظر رائع لجميع الجبال المحيطة بالبتراء. من هنا بدأ نزول ضخم بآلاف السلالم وشديد الانحدار.
في تلك الليلة كان جسدي ممتلئاً جداً وروحي ممتلئة لدرجة أنني غرقت في واحد من أحلى أحلام حياتي.
وأعتقد أحياناً أن الإنسان عندما يرغب في شيء ما رغبة شديدة ويشغل عقله وحواسه مراراً بتلك الرغبة، فإنه ينسج تدريجياً شبكة غير مرئية بينه وبين الشيء الذي يرغب فيه. ربما هذا ما كنا نلعبه أنا وبيترا.
في صباح اليوم التالي أردت الانطلاق مجدداً في طريقي إلى عمّان. كنت أنا وجوردي في سيارة أجرة…. [والآن بعد أن فكرت في الأمر، لا أعتقد أنني كنت أملك ثروة طائلة، ولهذا السبب كنت دائماً أتمكن من تحمل نفقات السفر بسيارة الأجرة، فهي أرخص وسيلة للسفر في هذه المناطق النائية؛ فهي أغلى قليلاً من الحافلة وأكثر راحة] …. على أي حال، بينما كنا في طريقنا إلى معان، لنستقل الحافلة إلى عمّان، سألني سائق التاكسي، وهو شاب في مثل عمري، ماذا رأيت في البتراء؟ ”البتراء“. “لوحدك؟ “حسناً، نعم… ماذا هناك أيضاً يستحق المشاهدة؟ فعدّد لي سلسلة من الأسماء. ”آه، لا، لا أعرف أياً منها“. واصلنا الحديث عن أشياء أخرى. اقترح عليّ أن أبقى، وأطلعني على قائمة الأماكن ونمت في منزله مع عائلته.
أيقظت جوردي النائم، الذي لا بدّ أن اللغة العربية كانت تبدو له كموسيقى سماوية، لأنه كان نائماً دائماً، وسألته ماذا يفعل؟ “يجب أن أكون في سوريا بعد يومين. لا أستطيع البقاء. على الرغم من أنه من الجيد أن يكون لديك رفقاء سفر، يجعلون رحلة المرء أكثر متعة، مثل كل شيء آخر في الحياة، إلا أنهم أيضًا مسافرون. وعلى الرغم من أن كل الوداع محزن، لأن القلب سرعان ما يتعلق بأشخاص عزيزين علينا بشكل خاص، إلا أنه ضروري أيضًا. بهذه الطريقة يمكننا أن نغذي في نفوسنا حلم لم الشمل. وداعاً جيرونا. إلى اللقاء.
ها أنا أذهب مرة أخرى، وحيدًا في مواجهة الخطر، أجوب طرقات الشرق الأوسط. أخذني سعيد إلى الشوبك، التي كانت مع الكرك الحصنين المسيحيين الرئيسيين خلال الحروب الصليبية. على الرغم من أن قلعة الشوبك أقل جمالاً من الكرك، إلا أنها تتمتع بجمال رائع. ومن بين الطوابق الخمسة التي كانت تضمها في عام 1115 عندما بناها الفرنسيون، لم يتبق منها سوى طابقين فقط، حيث دمر زلزال الطوابق المتبقية في القرن الثالث عشر. ومع ذلك، فقد كان مليئاً بالمفاجآت. فهناك كل شيء من غرف عصر النبيذ إلى الكنائس والأنفاق التي يبلغ طولها خمسين متراً والتي كانت تؤدي إلى أسفل الجبل.
ومن هناك أخذتني إلى العبدلية، وهي منطقة مليئة بالأشجار، ولست متأكداً إن كانت أشجار البلوط أو البلوط الهولمي، ولكن ما أنا متأكد منه هو أنها كانت تثمر الجوز. على الرغم من أن الأمر قد يبدو سخيفاً، إلا أنه من المدهش والممتع للعين أن تجد غابة وسط هذه الجبال القاحلة. في طريق عودتنا إلى البتراء مررنا بالبيضاء البيضاء. نفس نوع المنازل والمعابد التي كانت في البتراء المنحوتة في الصخر، ولكن هذه المرة كانت الصخور بيضاء، بياضها شديد، وأحياناً مع عروق مخضرة ومغرية. كما كانت رائعة وجميلة.
ذهبنا إلى منزله. كانت زوجته، إبتسام أو المترجمة ابتسام، في العشرين من عمرها، لديها ابنتان. لقد وجدت أنه من المدهش أن تكون فتاة واحدة أماً لأخريات. جلسنا لتناول الطعام وقدمت لي أرزاً لذيذاً مع التوابل…. وتحدثنا حتى وقت متأخر من الليل.
رويداً رويداً أصبحت كلماتها تهدهد في الخلفية حتى امتزجت مع همهمة رياح الصحراء…. كانت تلك العاصفة من الرمال قد حاصرتني بين ذراعيها المرنتين وكانت تسحبني للخارج. كان يتم انتزاعي عنوة من مكان أجمل من أن أغادره من تلقاء نفسي.
حول البحر الميت
أرخِ جفنيك برفق وأرخِ عقلك. نشّط عقلك الباطن. تذكّر تلك الأوقات في الماضي عندما كان البشر بضعة قبائل. تذكر أي بحر كنا نلعب به…. كان مالحًا جدًا وكان الاستحمام فيه متعة حقيقية لأنك كنت تطفو وكأنك تطفو على الماء؟
والآن، بعد رحلتي، عدت بعد رحلتي لأداعب مياهه. هذا ”بجر الميت“ أو البحر الميت يختلف عن أي بحر آخر رأيته في حياتي. فالملوحة الهائلة لمياهه تجعل أي أثر للحياة الحيوانية أو النباتية في أعماقه مستحيلاً.
إنه كثيف جداً لدرجة أنك عندما ترمي حجراً من جرف صغير بكل ما أوتيت من قوة لتجعلها تذهب إلى أبعد ما يمكن…. يحدث شيء غريب. بمجرد أن يلامس الحجر الماء، تفقد كل إحساسك بالواقع. لا يبدأ الماء على الفور في الاهتزاز ورمي دوائر متحدة المركز في السماء، بل يأخذ وقته. في البداية يبتلع الحجر، أفترض أنه يزنه ويداعبه ويطلب من خبرائه قياسه وتحليل تركيبه الكيميائي، ثم يقرر ببطء. يقرر أي رد فعل يتخذه.
وفي هذه الأثناء، يجلس المرء على حافة الجرف، ملتحفاً بغطاء من القلق، ينتظر متى يرقص الماء… حتى بعد قليل، وببطء شديد، يبدأ الماء في الارتفاع حول النقطة التي ابتلع فيها الحجر… وبعد القمة، يأتي السقوط، يليه ارتفاع جديد. وشيئًا فشيئًا يتحول السطح المرآوي إلى تلال صغيرة متكتلة تبقى، لا تمحى، مهندسة توازن معقد، للحظات أبدية. سطح يتحول إلى طيات صخرية لا يبدو أنها تريد أن تغادر.
على مقربة من البحر الميت، في الداخل، تتدفق من الصخور دفقات ضخمة من المياه الساخنة وتتساقط على شكل شلالات هائلة حتى تلامس الأرض. إن الوقوف تحت هذه الأعمدة البلورية يعني تحمّل الانهيارات الجليدية الثقيلة. تكافئك الطبيعة الأم بهدية حمامات البخار الطبيعية المغروسة في الصخور، حيث يمكنك أن تستريح وتجدد أطرافك المشلولة. من هذا المكان الفردوسي المسمى الحمامات الرئيسية تتدفق كتل من المياه المغلية في اتجاه بحر الحياة الذي ينتظرك على بعد حوالي عشرة كيلومترات. عشاق متعطشون للبحث عن المياه المالحة.
وعندما يصلون إلى البحر، أعدت لهم الطبيعة بركاً صغيرة منحوتة من الصخر، حيث يمكنهم أن يستريحوا ويلتقطوا أنفاسهم الأخيرة قبل أن يصبوا في البركة المالحة العظيمة. قد تبدو هذه المياه، بسبب ارتفاع درجة حرارتها، والبحر الميت، بسبب ملوحته العالية، كأنها رسل الموت، ومع ذلك فإن الشعور بالامتلاء اللطيف يفيض من النفس عندما تسمح لنفسك أن تهتز في عباءتها
أما المكان الذي أصفه لك، حيث يلتقي التياران، فقد استطعت أن أجده بفضل فتى. كنت قد اعتديت عليه ذات يوم في منتصف النهار في عمّان، ورجوته أن يأخذني إلى الحدود الإسرائيلية. فأخذني، لكن عندما وصلنا إلى هناك كانت الحدود مغلقة.
في وقت سابق من ذلك اليوم كنت قد وقفت في طابور الانتظار بصبر في وزارة الخارجية الأردنية في كوخ أقاموه في حدائقهم، وهو بمثابة ”ممثلية فلسطينية“ حيث يفترض أن يحصل المرء على تأشيرة لزيارة الأراضي المحتلة. وأعتقد أن الجو الخانق في ذلك الطابور هو محاولة لا شعورية لإثنائك عن الذهاب. ومع ذلك، كان توقي لرؤية فلسطين التاريخية كبيراً جداً لدرجة أن أي عائق لن يكون كافياً لثنيي عن الذهاب.
وبينما كنت أقف في الطابور سمعت شائعات بأن المعبر الحدودي مغلق في الساعة الثانية عشرة، والواحدة، والثالثة، والخامسة، والثامنة. وكما هو الحال دائمًا في هذه الأنحاء، لا أحد يعرف بالضبط ما هو الوقت. رهاب اللاوعي من مرور الوقت.
عندما تمكنت من الحصول على ورقتي الصغيرة في منتصف النهار تقريبًا، بعد أن دفعت نفسي بين الجموع، ركضت إلى المركز، إلى محطة الحافلات. لم يتبق شيء فاعتديت على سائق تاكسي شاب. بأسلحة المرأة الحادة كان من السهل إقناعه بتوصيلي. كانت المسافة ساعة ونصف فقط بالسيارة. وصلنا في الساعة الثالثة. عندما اقتربت من المركز الحدودي، نظر إليّ الشرطيان بطريقة غريبة، وكأنهما كانا يفكران ”ماذا تفعل هنا؟ كانوا قد أغلقوا في الساعة الواحدة. من المستحيل إقناعهم.
والآن ماذا أفعل؟ لم يكن هناك فندق واحد في المنطقة كلها. أقربها كان في عمّان… o… “في البحر الميت… سيكون من الخطيئة أن تغادروا من هنا دون أن تستحموا في مياه هذا البحر الجميل”. “ماذا ستفعلين يا ’منى‘؟ عليك الانتظار حتى الغد. لا يمكنك المرور اليوم. “هل البحر الميت بعيد جداً من هنا؟ ”لا، إنه قريب جداً.“ ”أيمكنك أن تقربني منه وسأبقى هناك؟“
كنا نمر عبر بساتين المحاصيل على طول ضفاف نهر الأردن… إلى أن ارتفعت أمام أعيننا من بعيد سحابة كثيفة من الهواء المتكاثف. ”هناك البحر“. بعد فترة قصيرة أوقفتنا الشرطة. إما أن ندفع المبلغ الذي طلبوه أو لن نتمكن من الاستمرار… لو كان سطح الطريق جيدًا، كان بإمكانك أن تواسي نفسك بفكرة ”لا شيء، تمامًا مثل رسوم المرور في بلدي“، لكن الطريق كان مثل الماعز، كانت السيارة المسكينة تقفز نحو اللانهاية بسبب كثرة الحفر في سطح الطريق. أردت أن أدفع ولم يسمح لي بالدفع. ففعل.
بدأنا نلتف حول البحر على طول الطريق الضيق، بين الجبال والجرف الصغير الذي كان سيسقط في البحر. مياه مهيبة ملفوفة في سحابة من الصوف القطني. غير واقعي. جميل. ”إلى أين نحن ذاهبون؟“ “أريد أن أريك مكاني المفضل. وهناك أخذني. وكما شاءت الصدفة، كنت قد قضيت اليوم السابق عند تلك الشلالات الحارة التي حدثتك عنها، دون أن يكون لدي أدنى فكرة أن القدر سيريني في اليوم التالي بالضبط تلك البقعة من البحر الميت التي ستصب فيها تلك المياه.
كنا نتدلك بكلتا المائين: بمجرد أن سبحنا في البحر المالح، وبمجرد أن خرجنا لنجلس في تلك البرك من الصخور والنار لنستجم ونستريح.
وعندما كانت الشمس في طريقها إلى الجبال الفلسطينية، هناك، على الجانب الآخر من هذا البحر، قررنا أن نصعد إلى جرف صغير لنشاهدها وهي تودعنا. وهناك، بينما كان يرمي بحجارته في البحر، تعجبت من السكون المهيب الذي استجاب له الماء.
ثم رفع ذراعه للمرة الألف، فرفع ذراعه للمرة الألف، فتأوه الحجر في يده المتيبسة، ثم عاد وألقى به. فكر لبضعة أعشار من الثانية ثم قال: ”ماذا ستفعل الآن؟ سؤال جيد. ”سأبقى هنا وأنام“. “هذا ممنوع، عليك أن تغادر الشواطئ قبل غروب الشمس. يمكنك فقط البقاء في ذلك الفندق الذي مررنا به على بعد أميال قليلة.” على الرغم من أن خبرتي بالفنادق ليست كبيرة، إلا أنها كانت كافية بالنسبة لي لأعد النجوم الخمسة الصغيرة التي مررت بها، لأستنتج أنه بما تبقى من ميزانيتي لم يكن بإمكاني تحمل تكاليفه. “ليس الفندق. صمت. جلس القرفصاء وتاهت نظراته في الأفق. فعلت الشيء نفسه وتركت نفسي مأخوذاً بجمال غروب الشمس. بين التصورات طلب عقلي المتأمل المساعدة ثم صمت. رأيت واحدًا من أجمل غروب الشمس في حياتي.
وقف، ورفع ذراعه مرة أخرى، وبينما كان يرمي الحجر، تدفقت أفكاره إليّ على شكل كلمات. “إذا أردتِ العودة إلى عمّان، ابقي في منزلي، وغدًا سأعيدك إلى الحدود. نظرت إليه وابتسمت.
دخلت إلى منزله. لم يعرفوا من أنا، أو من أين أتيت، لكن لم يكن الأمر مهمًا. كان المهم أن ضيفاً دخل منزلها وكان لا بدّ من الترفيه عنه. جلست على بعض الوسائد في الفناء. ومن حولي، في دائرة، كانت عائلتها تتحلق حولي: والديها وإخوتها وأصهارها وأصهارها وأصهارها والعديد والعديد من الأطفال.
وعلى الفور، وُضعت أمامي مائدة صغيرة منخفضة محملة بتلك الأطباق العربية الشهية. إنها جنة النباتيين. الحمص الطازج، ذلك المعجون الطازج المصنوع من الحمص بقوام ما بين القشدة والباتيه الذي يُغلف بزيت الزيتون ويؤكل بقطعة خبز تُقلب بمهارة في ملعقة باليد وتغمسها فيه. المتبل والفول، وهو مشابه لما سبق، ولكنه مصنوع من الباذنجان والفاصوليا العريضة على التوالي. الفلافل، وهي كرات صغيرة مصنوعة من الحمص والبقدونس، مخبوزة ومقلية؛ وهي في منتصف الطريق بين الكروكيت وكرات اللحم، ولكن بطعم خاص جداً. الكوسا والباذنجان الرائع المحشو بالأرز. أطباق صغيرة بالزيتون وجميع أنواع التوابل التي تؤكل بغمس الخبز أولاً في الزيت ثم في الطبق الصغير المقابل. ثقيلة في تلك الساعات المتأخرة من اليوم، لكنها لذيذة.
كانت عائلته ساحرة. جميعهم فلسطينيون يعيشون هنا منذ حرب 67. بدا والدها أباً عظيماً، أب لستة أبناء وسبع بنات، ”جدش“ حقيقي. ”جدش“ هو أعلى لقب اجتماعي ديني يمكن أن يحصل عليه المسلم أو المسلمة ويحصل عليه بعد الحج إلى مكة المكرمة. وكان والد إبراهيم قد حج مرتين إلى مكة، مما جعله في مصاف القديسين المتدينين. أما أمه التي لم تكن قد تجاوزت الخامسة والخمسين من عمرها على الأرجح، فقد كانت تبدو في السبعين أو الخامسة والسبعين. إنه المصير المحزن للنساء المسلمات من ذلك الجيل، أن ينجبن أكبر عدد ممكن من الأطفال وأن يعملن بجهد كبير بحيث تقع أجسادهن فريسة للتشوه.
لم يجرؤا على تذوق بقايا الطعام إلا عندما انتهيت من تناول الطعام. حمدًا لله أنني لم أتبع المثل الإسباني القائل ”في بيت الفقير لا تتذوقوا الطعام“، وإلا فإنني كنت مسكينة. كنت قد أصررت على أن يأكلوا معي، وبما أن الأم وحدها هي التي أكلت من الطعام، فقد ظننت أن البقية قد أكلوا بالفعل. لم أكن على علم بالعرف العربي الذي يحق بموجبه للضيف وأكبر أهل البيت سناً أن يأكل أولاً. أما البقية فعليهم أن ينتظروا ما تبقى من الطعام، إن كان قد تبقى منه شيء.
نمت في غرفة البنات. إنه نظام عملي. نفس الحصائر التي يستخدمونها للجلوس عليها أثناء النهار هي نفسها التي ينامون عليها ليلاً. ما عليهن سوى إخراج البطانيات من خلف الباب ونشرها على المراتب وبلمح البصر يكون قد تم ترتيب خمسة عشر سريرًا.
في الصباح عندما كنا على وشك الخروج، جاءت ابنة أخته الصغيرة إليّ ووضعت حقيبة صغيرة في يدي. كان لونها مبهرجاً بعض الشيء، بالوردي والأصفر والذهبي، لكن وجهها السعيد والمودة التي أعطتني إياها أرق قلبي. حملتها بين ذراعيّ واحتضنتها بقوة.
لم يكن المعبر الحدودي هذه المرة أرضاً قاحلة كما في اليوم السابق، بل كان ممتلئاً عن آخره بطوابير ضخمة من السيارات. أوقفنا سيارته وسرنا. “على الرغم من أنه لا يزال هناك كيلومترين على الحدود، إلا أننا سنصل إلى هناك في وقت أقرب إذا مشينا على الأقدام. وسرت خلفه وأنا أحمل حقيبتي الجميلة على كتفي. تجاوزنا طابور السيارات المحتضرة بالكامل، والتي من منظرها قد تظن أنها كانت تصطف أمام ساحة الخردة. تحدّث إبراهيم إلى الشرطي الذي كان يقف في الطابور وأومأ لي أن أتبعه. بعد ثلاثمائة متر من السير بمفردنا، استوقفتنا أول سيارة مرت بنا وأخذتنا برفق إلى الحدود.
كانت الحدود عبارة عن محطة للحافلات حيث تشتري تذكرتك وتختم جواز سفرك وتصعد إلى الحافلة وتنتظر. ودّعت إبراهيم واستعددت للانتظار. وبينما كانت الحافلة على وشك الانطلاق، رأيته يركض عائدًا. “ما الأمر، هل نسيت شيئًا؟ طلبت من السائق أن يفتح لي الحافلة للحظة ونزلت، ”هذا لك، نسيت أن أعطيك إياه“. وكما في الصباح، وضع بين يدي مشبك شعر وردي وذهبي بين يدي. في الحقيقة، لم أكن أعتقد أن الناس هنا سيكونون بهذه اللطف. قلت ”ألف شكر“ (شكراً جزيلاً لك) وعدت إلى الحافلة.
كان هذا هو المعبر الحدودي لجسر الملك حسين الشهير بالنسبة للأردنيين و”أللن“ بالنسبة للإسرائيليين. لطالما تخيلته في ذهني المسرحي جسراً سينمائياً، كبيراً وعريضاً وعلى جانبيه رجال الشرطة ومن تحته تتدفق مياه نهر الأردن الأسطوري بشكل مهيب. لكن لا. كنت تركب الحافلة، وتسير في طرقات صغيرة، بما في ذلك جسر صغير متهالك فوق مجرى مائي صغير، وبعد فترة قصيرة تهبط الحافلة في محطة حافلات أخرى وتكون في إسرائيل – حسناً، لا، في الواقع، لقد وصلت إلى محطة حافلات أخرى في فلسطين المحتلة من قبل إسرائيل، وليس إسرائيل.
البحر المقدس
هل تتذكرون كم من كائنات النور، العربية واليهودية على حد سواء، سكنت هذه الأراضي السامية في غياهب الزمن؟ عندما كان العالم لا يزال يعيش في الكهوف، في هذه الأراضي السامية (وأقصد هذه الأراضي السامية بالمعنى الواسع… من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي) كان النور يسطع بشكل رائع. أحياناً أتلاعب أحياناً بتذكر كيف كنا نعيش. كانت الحياة أكثر استرخاءً مما هي عليه الآن، أكثر انسجامًا، ولكن كانت لا تزال هناك أوقات عصيبة. ورغم أن إبراهيم، أبينا العظيم إبراهيم، كان بلا شك كائنًا من نور، إلا أنني أتذكر أنني بكيت كثيرًا عندما قاد زوجته هاجر وابنهما إسماعيل إلى الصحراء. خشيت ألا ينجوا. الحمد لله أنهما خرجا منها واستطاعت هاجر أن تصبح جدة الشعب العربي.
ذكرى أخرى توخزني في ذهني هي تلك الأوقات اللاحقة عندما كنا جزءًا من الإسينيين. لقد التقيت برجل رائع اسمه عيسى، يسوعنا المبجّل، الذي برز على الفور بسبب نقاء هالته الهائلة. كائن آخر من النور.
لقد شعرت بغرابة أن أكون هنا مرة أخرى، بعد قرون عديدة من زيارة هذه المناطق مع ذكرياتي فقط، لقد تغير الكثير! لم يعد بإمكانك أن ترى من السماء خيام البدو في كل مكان، بل بقعاً من القماش الملون. بعضها أبيض وأزرق، والبعض الآخر أبيض وأسود وأحمر وأخضر. تبدو الأولى أعلاماً إسرائيلية والثانية أعلاماً فلسطينية.
وبالفعل، بعد مغادرة محطة الحافلات الحدودية الإسرائيلية بدأت سلسلة من نقاط التفتيش التابعة للشرطة، بشاراتها المتعددة الألوان، وكلها وسط طرق مهجورة يحدها العدم. أولاً نقطة تفتيش إسرائيلية، تليها نقطة تفتيش فلسطينية. بعد فترة قصيرة مررنا بقرية صغيرة مليئة بالأعلام الفلسطينية وأشجار النخيل. بدأ هذا الأمر يزعجني فسألت: ”أين نحن؟ ”في أريجا“. “أريحا، أريحا … ممم…. آه، بالطبع، أريحا. نحن نمرّ في عاصمة الإقليم الذي أُعلن مؤخراً تحت السيادة الفلسطينية”. نقلت اكتشافي هذا إلى السائحين الذين كانوا يسافرون معي، حيث ارتسمت على وجوههم نفس تعابير الارتباك والهلوسة التي كانت ترتسم على وجهي قبل لحظات، وكانوا سعداء للغاية. بعد فترة قصيرة، كشك فلسطيني آخر وبعده كشك إسرائيلي آخر. الآن لم أسأل، بل شرحت للناس أننا سندخل إسرائيل مرة أخرى. “الوداع يا أريحا، يا قطعة صغيرة من أرضي الفلسطينية!
في غمضة عين كنا في القدس، المدينة المقدسة، القدس. إنها مدينة لم أتخيلها من قبل، وربما لهذا السبب أعجبتني كثيرًا. دعونا نحاول إعادة بناء تجربتي. خذني من يدي وأطلق العنان لنفسك. لقد غادرت أريحا للتو وأنت تتعثر في سيارتك وسط حشد من الناس في شوارع ضيقة لا تكاد تمر فيها عربة… مليئة بالأعراب يبيعون ويشترون ويجلسون على الأرصفة ويتحدثون على أبواب الدكاكين… النساء في أثوابهن الطويلة والرجال في جلابيبهم… كلهم مغطون حتى الأسنان في عز الصيف… ”أين أنا؟“ ”في القدس، في القدس“، يجيبون. يشرد ذهنك فيما إذا كانت هذه ليست نفس المدينة التي يدعي الإسرائيليون أنها عاصمتهم. “اليهود؟ لكنها أكثر مدينة عربية رأيتها في حياتي. لا يمكن أن تكون كذلك. لا بد أنني أحلم. أنت لا تحلم. انتظر، أنت لم ترَ الأفضل بعد.
وفجأة تمتد أمامك حدائق خضراء مليئة بالزهور وأشجار النخيل وخلفها جدران بيضاء. يمكنك أن تنظر بالفعل إلى اليمين أو اليسار، فالجدران تلامس اللانهاية. إنها تنضح بتناغم لا يوصف. تتنافس أحجارها في ثراء تصويري مع السحب في السماء. تبدو وكأنها تشكل جزءًا من توازن معقد من المستطيلات المثالية… معلقة في الهواء بخيوط دقيقة، ويبدو أن لكل واحدة منها مكاناً محدداً مسبقاً في هذا الحفل الموسيقي من التناسق. ويمكنك أن تمشي على طول تنانيرهم ولن تجد رقعة واحدة ولا تجعيدة واحدة. صقيل من التألق المستمر، لا يقطعه سوى الشق المهيب لسبعة أبواب. المداخل السبعة للمدينة المقدسة.
أروعها جميعاً، إذا كان للمرء أن يختار من بين الأشياء المتساوية في الجمال باب ألموت أو باب دمشق. “عندما تمر من تحته محشوراً بين البشر، وتدخل المدينة بشوارعها الضيقة التي تصطف على جانبيها الدكاكين والأكشاك، وبيوتها المنخفضة البيضاء… ألا تشعر وكأنك دخلت أرضاً للعب؟ الكثير من صخب الباعة المتجولين وضجيجهم، والكثير من الفاكهة الملونة والخضروات والحلويات والحلويات والسكاكر وغيرها من البضائع التي تستغرقك… وأنت غارق في صخبها من السهل أن تتعثر في خطوة وتتعثر، فكن حذراً. في مدينة الخطى هذه لا توجد سيارات ولا حداثة. الوقت لا يجري… ولكن الروح تطير.
يمكن أن يكون العيش هنا جنة أو جحيمًا، اعتمادًا على من تكون. دعني أخبرك عن ذلك. داخل هذه الأسوار التي تعود إلى القرون الوسطى، تتعايش العديد من الأديان والأعراق المختلفة. بادئ ذي بدء، المدينة منقسمة، كما كانت برلين، عاصمة ألمانيا، خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية وسقوط الشيوعية، إلى قسمين، حيث تنقسم القدس إلى أربعة أجزاء: قسم مسيحي، وقسم مسلم، وقسم أرمني، وقسم يهودي. وللمتابعة، وأنت تتجول في شوارعها تلاحظ أين تفوح منها رائحة المال وأين تفوح منها رائحة الفقر؟ في كثير من الأحيان يتم تفجير المنازل في منطقة المسلمين كما لو كان بسحر ساحر، وفي اليوم التالي تجد يهوديًا على باب المنزل يريد شراءه – طريقة حقيرة لإعادة شراء المدينة، ألا تعتقد ذلك؟ ليتني أستطيع أن أكون أكثر إنصافاً وأقول أشياء رائعة عن اليهود، ولكن… للأسف قضيت ثلاثة أيام أتجول في هذه المدينة الجميلة وأتحدث إلى أهلها… وقد أصبحت بالنسبة للكثير من العرب جحيماً لا يطاق.
ولك أن تتخيل أنهما شعبين متشابهين إلى هذا الحد، ولغتهما من أم مشتركة، ومع ذلك يشعران بكراهية متبادلة تتسلل إلى جسدك مع كل نسمة هواء! من المحزن أن كلا الشعبين يحملان في داخلهما نفس الاستعداد للكراهية.
حتى الصلاة عند نفس الجدار لم تقربهما من بعضهما البعض. إذا كنا عندما نصلي نطلق سهامًا من قلوبنا إلى السماء ونوجهها إلى الآلهة التي هي نظريًا الحب، فإن الآثار التي تتركها السهام يجب أن تكون آثارًا نابضة بالحب. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنهم يصلون إلى نفس الحائط إلى نفس الإله (لأن الرب اليهودي هو نفس الإله الذي يصلي إلى نفس الإله المسلم والإله المسيحي)، فإن سهامهم تبدو مثل حجارة ثقيلة يتجنب بعضها بعضًا، ويصارع بعضها بعضًا، ويصارع بعضها بعضًا حتى لا تتقاطع …. لماذا يفعلون ذلك؟ لأن التاريخ في هذه الأرض الجميلة، أرض فلسطين التاريخية، قد حُرِفَ التاريخ بحرف كبير ليحرمها من عدالتها… نأمل إذا ما عادت العدالة التاريخية أولاً، أن ينجح إله هذه الديانات الشقيقة أخيراً في توحيدها ولا يكون سبباً آخر للخلاف بينها.
يزعم البعض، وهم اليهود، أن الحائط الذي يصلون أمامه، أو كما يبدو، الذي ينوحون أمامه (لأنهم يقفون بجانبه يتمايلون جيئة وذهاباً وهم يضربون برؤوسهم عليه كعلامة للتوبة) هو البقية الباقية مما يزعم اليهود أنه هيكل الملك سليمان.
ولكن، من ناحية، هذه المدينة المسكينة قد سويت بالأرض مرتين منذ ذلك الحين – على يد تغلثفالسار السوري وتيتوس الروماني – وحوصرت وأصيبت بجراح مميتة في مناسبات أخرى لا تحصى. كيف يمكننا أن نصدق أن هذه القطعة من السور هي الأصلية! لماذا ندافع عنها حتى الموت؟ هل مجموعة من الحجارة تساوي أكثر من حياة البشر؟ ولكن… ومن ناحية أخرى، لا شيء (من حيث الحفريات الأثرية) ولم يستطع أحد أن يثبت، بأدلة دامغة في متناول اليد، أن سليمان عاش هناك حقاً… أنا شخصياً أعطي مصداقية أكبر للأطروحة القائلة بأن سليمان عاش (والعهد القديم قد حدث) في عسير، المملكة العربية السعودية اليوم.
أما الآخرون، وهم المسلمون، فيسيطرون على مسجد الصخرة، بقبته الذهبية الجميلة، وتحيط به حدائق، وهي نصف مساحة القدس القديمة، ومسورة بسور. يميل أحد هذه الأسوار إلى حائط المبكى، ومع ذلك يبدو وكأنّ نواحهما يتحاشيان بعضهما بعضًا، ولا يلتقيان أبدًا. ويزعم المسلمون أن هذا المسجد الجميل الذي بناه أبو مالك عام 691 يقوم على الحجر الذي صعد منه محمد إلى السماء. وبالتالي، فهو ثالث الأماكن المقدسة في الإسلام بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ولكن، ضع في اعتبارك أن محمدًا توفي فيما يُعرف الآن بالمملكة العربية السعودية عام 632… بعيدًا عن القدس. مسافة طويلة من القدس، وكيف تفسرون أنه قطع كل هذه المسافة ليعرج إلى السماء؟ إنه التفاف بعض الشيء، أليس كذلك؟ لا أعرف من له اليد العليا عندما يتعلق الأمر بالابتكار، اليهود أم المسلمون؟
ولكن مهلاً، لم أخبركم بالجزء الأفضل بعد. في الجزء المسيحي من المدينة، وعلى نفس الطراز من المنازل الجميلة المنخفضة ذات الطابق الواحد أو الطابقين والمطلية باللون الأبيض، توجد كنيسة القيامة. إنها شهادة أخرى على ما يمكن للخيال البشري أن يبدعه، ليس فقط بسبب خليط الديانات التي تدّعي كل منها أفضليتها من الروم الأرثوذكس والأرمن والسريان الأرثوذكس والكاثوليك والآباء الفرنسيسكان، كل منهم بعاداتهم وأردية مختلفة تميزهم عن غيرهم… بل أيضاً بسبب هندستها المعمارية الفريدة.
عند دخولك إلى اليمين توجد سلالم تؤدي إلى الطابق الأول الذي يقال إنه مبني على جبل الجلجلة. يمكنك حتى أن تضع يدك من خلال ثقب وتلمس عرقاً من الصخرة الأصلية.
إذا نزلت مرة أخرى، عد إلى المدخل ومن هناك انعطف يساراً، ستصل إلى غرفة دائرية كبيرة في وسطها قبر. يُقال أن موقع هذا القبر يتطابق مع المكان الذي دُفن فيه يسوع. إذا كنت تتذكر ما ورد في الكتاب المقدس، فقد أنزلوه من على الصليب على الجبل ووضعوه في مغارة قبر عند سفح التل التالي. والخلاصة: لقد بنوا الكنيسة على كلا التلتين، صقلوا الجبال عندما كانت في الطريق وتركوها عندما كان الأمر مثيرًا للاهتمام من أجل ذاكرة الأجيال القادمة الجديرة بالثقة.
وأسئلة أخرى أجدها مدهشة: كيف نعرف أي جبلين كانا وأين كانا؟ لماذا حملوهما وبنوا مكانهما مثل هذا الهيكل المصطنع حيث كل طائفة تسوّق معتقداتها على أنها هي الصحيحة والوحيدة؟ ألم يكن يسوع هو الذي، كما يقال، طرد التجار من الهيكل قائلاً إنه لم يكن في بيت أبيه تجارة؟
أنا لا أشك في أن سليمان أو محمد أو يسوع كانوا كائنات من نور، كائنات عجيبة، ممسوحين بنور الله الإلهي، لكن قلبي ينفطر عندما أرى أن البشر غير قادرين على اعتبار أنفسهم أبناء نفس الإله ويقاتلون حتى الموت للدفاع عن شريحتهم الخاصة من الحقيقة. كما لو كانت رؤيتهم للعالم هي الرؤية الحقيقية الوحيدة للعالم… في حين أنه في النهاية لا يمكن للبشرية جمعاء أن تدرك كلية الألوهية… قطعتك الصغيرة من الألوهية، بالإضافة إلى قطعتي أنا، بالإضافة إلى قطعة الألوهية الأخرى، بالإضافة إلى قطعة الآخرة، بالإضافة إلى قطعة الآخر الذي وراءها، سواء كان مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا أو ملحدًا أو ملحدًا (مثلي)؛ فقط مجموع كل هذه القطع الصغيرة يمكن أن يرينا الوجه الحقيقي لله.
أرخوا أطرافكم… خذوا نفسًا عميقًا… تخيلوا دخانًا أزرق يدخل من باطن أقدامكم ومع كل نفس هواء يتصاعد تدريجيًا إلى أعلى في جسدكم ليطهره ويزيل أي توتر قد يكون موجودًا فيه… عندما تنظف جسمك بالكامل، حاول أن تحافظ على هذا الشعور بأنك محاط بفقاعة زرقاء.
الآن ركزوا… التركيز هو الأداة الوحيدة التي نملكها لتهدئة العقل… اربط قارب أفكارك بقلبك… استمع واشعر بنبضات قلبك حتى تندمج معه… أبقِ عقلك راسخًا هناك، لا تدعه ينجرف بعيدًا؛ إذا كان يجب أن يتحطم اسحبه إلى العوم مرة أخرى.
بمجرد أن نحرر كياننا من توترات أجسادنا وشرود أذهاننا، وكلاهما في راحة، يمكننا أن نحاول أن نترك روحنا تغادر الجسد بحثًا عن اللانهائي…. دعونا نتأمل إذن.
هل جئت لتشارك الله في تأملك؟ وأنه همس في أذنك بحنان أنه من الممكن أن تتحد معه أينما كنت على وجه هذه الأرض. إن الله أو المقدس أو الإلهي أو أمنا الأرض أو أمنا الأرض أو باتشاماما، الذي لا يوصف، ليس فقط في تلك الكنيسة أو عند ذلك الجدار، بل هو أولاً وقبل كل شيء في روح كل إنسان، وهناك يجب أن نتعلم أن نبحث عن حضوره.
تعال، أعطني يدك مرة أخرى، دعنا نطير. الآن وقد صرنا نرتفع فوق أسطح المنازل في القدس يمكنك أن ترى بوضوح مبانيها الجميلة أحادية اللون…. الأبيض هو ملك هذه المدينة، هل تلاحظ كيف أن أسوار هذه المدينة تشكل دائرة شبه كاملة؟ هناك إلى الشمال توجد البوابة التي دخلنا من خلالها، باب العاموت. وبالالتفاف باتجاه عقارب الساعة، عند سفح الأسوار الشرقية توجد منحدرات جبل الزيتون؟
على الرغم من صعوبة الصعود إلا أننا أوشكنا على الوصول. أليس المنظر من هنا جميلاً، حيث القبة الذهبية المبهجة لمسجد الصخرة في المقدمة وخلفها بقية المدينة… عدد لا يحصى من النقاط البيضاء… هل رأيت كم عدد أشجار الزيتون هناك؟ يقولون أن المسيح قضى ساعاته الأخيرة قبل إعدامه بجانب هذه الشجرة.
هذا أفضل، من الأعلى هنا المنظر أروع بكثير، هل ترى ذلك الطريق الضخم الذي يمتد على طول الجزء الغربي من السور ويمضي إلى الأمام مباشرة حتى يضيع في الأفق؟ هذا هو ما يسمى بالخط الأخضر، الخط الذي يفصل بين الأخيار والأشرار، مثل جدار برلين الذي ذكرته سابقًا. على اليمين الجانب الفلسطيني، وعلى اليسار الجانب الإسرائيلي. ومنذ أن أعلنت إسرائيل القدس عاصمة لدولتها في عام 1980 وضمت القدس الشرقية (وهو ضمّ خالف ولا يزال يخالف القانون الدولي)، لم يعد هذا الفصل المادي قائمًا.
ومع ذلك، لا يزالان يبدوان عالمين متباعدين. على الرغم من أن جميع اللافتات مكتوبة الآن باللغة العبرية، حتى في الجزء المسلم، إلا أن القدس الشرقية بأكملها، كل تلك الشوارع الضيقة التي نمر بها عند دخولنا المدينة والتي تحيط بالمجمع المسور، هي شوارع عربية لا تخطئها العين. أما القدس الغربية، الجانب الإسرائيلي، على الرغم من أنها هي نفسها بحر من التناقضات، خاصة عند حلول الظلام، إلا أنها تحتفظ دائمًا بلمسة الرصانة اليهودية التي لا تخطئها العين.
مع أول أشعة الليل الحالكة تموت القدس الشرقية، وتصبح شوارعها بحارًا من السواد، بينما تبدأ القدس الغربية بالانتعاش. في الوسط، تضاء جميع شوارع التسوق. بجوار المركز، في المجمع الروسي، منطقة الحياة الليلية في المدينة، تتجمع حشود ضخمة من الشباب. تماماً كما هو الحال في أي منطقة حفلات أخرى في الغرب، إلا أنهم يرتدون ملابس غريبة لدرجة أنك تظن أنك في كرنفال.
في جزء آخر من المدينة، قريب جداً من المركز أيضاً، يقع حي ”ميا شاريم“، وهو الحي اليهودي الأرثوذكسي. إنه مشهد رائع أن تمشي في شوارعها عند الغسق. فهي مليئة بالرجال، وجميعهم يرتدون ملابس سوداء، مع قبعاتهم السوداء على شكل حوض، وتلك الجديلتين اللتين تتدليان من الشعر اللتين تغطيان الأذنين… ونساؤهم، مغطيات بالكامل… لا بد أنهم يرتدون جوارب في منتصف الصيف… إنه أمر مثير للإعجاب… يبدون كالأشباح في الليل.
ما أصعب التوفيق بين عالمين يبدو أنه لا يمكن التوفيق بينهما… كم هو صعب التوفيق بين عالمين لا يمكن التوفيق بينهما… وكم هو سهل التوفيق بينهما بالحب في القلب والشرعية الدولية والعدالة التاريخية في العقل.
الضفة الغربية تسمى بالعربية دفّة الغربة: الضفة الغربية. تمتد هذه الأرض الواقعة على الضفة الغربية لنهر الأردن في هضبة مرتفعة حتى تصل إلى حوالي أربعين كيلومتراً من البحر حيث تنحدر بلطف إلى الأسفل. تبدو قدس/القدس وكأنها قطرة تخترق هذه الهضبة.
قررت ذات صباح أن أزور بيت لحم، بيت لحم، وهو اسم يعني بالعربية بيت الخبز، وهي بلدة فلسطينية صغيرة وجميلة تقع على قمة ومنحدر جبل على بعد بضعة كيلومترات جنوب قدس/القدس وجزء من الضفة الغربية المحتلة. إنها بلدة صغيرة ساحرة بمنازلها البيضاء وكنيستها الكبيرة التي تعلو أسطح المنازل. في طريق العودة إلى قدس/القدس، نقطة تفتيش للشرطة على الطريق. تفتيش لا مفر منه لكل مركبة وكل شخص.
بعد ظهر ذلك اليوم توجهت شمالاً، عائداً إلى الضفة الغربية. ما إن غادرت القدس حتى بدأت رحلة الصعود. عند كل منعطف في الطريق يصبح المنظر أكثر إثارة…. عند سفح حجر كريم يتلاشى في ألوان الظهيرة حتى يصبح نقطة صغيرة في اللانهائي. كان الطريق يتلوى على طول هضبة الضفة الغربية حتى يصل إلى رام الله، مدينة فلسطينية جميلة أخرى، بيضاء مبيضة بالكامل.
أتساءل لماذا سُمّيت رام الله، أو ما هو نفس الشيء: سجدت لله. ربما لأنها تقع على حافة الهضبة وأمامها تسجد الأرض وتنحني وتميل نحو البحر. في الأمسيات الصافية، إذا نظرت غرباً من تلالها يمكنك أن ترى بقعاً من البحر من خلال الضباب.
رام الله هي المركز السياسي والأكاديمي الفلسطيني، وهي موطن العديد من العائلات الفلسطينية الراسخة، وكذلك العديد من الذين يعيشون في الخارج ويستخدمونها كمقر إقامة صيفي فقط. رأيت في هذه المدينة الصغيرة الضائعة في الضفة الغربية أفخم القصور التي رأيتها في حياتي، وقابلت زوجين فلسطينيين أقمت في منزلهما وهما من أروع من أنعم من أنجبت هذه الأرض من البشر، وكم عاملتني بحنان! بدا لي أننا أصبحنا أخوات روحية في غضون ساعات.
زهور البحر الأبيض المتوسط
إذا ما قفزنا في الفراغ من تلال رام الله بعمود مطاطي نحو البحر، هبطنا على شواطئ البحر في بحر من التناقضات. أقصد تل أبيب ويافا الواقعتين جنبًا إلى جنب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. تل أبيب، عاصمة إسرائيل الوحيدة المعترف بها حتى يومنا هذا من قبل المجتمع الدولي بأسره تقريباً، تل أبيب، المدينة الحديثة، بمبانيها المتعددة الطوابق، ومراكزها التجارية، ومطاعمها الجيدة، تسير بموازاة شاطئ طويل. تبدو يافا، المدينة الساحلية الفلسطينية القديمة، بمنازلها المنخفضة المطلية باللون الأبيض على تلة فوق الميناء، وكأنها خطاف فضي يبرز في البحر.
وقد أصبحت منطقة يافا المواجهة لإسرائيل حيًا بوهيميًا مرغوبًا فيه حيث لجأ إليها صفوة الفنانين اليهود بحثًا عن الإلهام. المنظر جميل للغاية لدرجة أنهم من المؤكد أنهم سيجدونه. ولكن مرة أخرى… كم عدد العائلات الفلسطينية التي التقيت بها من العائلات الفلسطينية التي طُردت من هنا وهُجّرت إلى مخيمات اللاجئين والتي سيبقى هذا المنظر بالنسبة لها إلى الأبد ذلك الخطاف الصدئ الذي سيوخز به نفسه في كل مرة يتجرأ فيها على فتح صندوق الذكريات.
للوصول إلى غزة كان عليَّ أن أعود إلى القدس، ومن هناك ذهبت في السيارة الرسمية للسفارة الإسبانية بالأعلام وكل شيء وسيارات الشرطة التي تفتح لنا الطريق. كان القنصل صديقاً لي، وقد استغلّ فرصة اضطراره لزيارة عرفات، فأخذني إلى هناك. ولكن بما أننا في يافا على البحر، وحتى لا أجعلك تأخذين طريقاً التفافياً، تخيلي أننا نجلس على موجة والمياه تحملنا إلى البحر حتى تودعنا بعناية على الرمال النقية لشواطئ غزة الجميلة.
لقد رأيت العالم، ولكنني لا أعتقد أنني رأيت مثل هذه الشواطئ الجميلة من قبل. فبين حقيقة أنهم لا يستحمون بسبب تقاليدهم (وهم في غزة متمسكون جداً بتقاليدهم) وبسبب الانتفاضة لم يتمكنوا من أن تطأ أقدامهم الشاطئ منذ سنوات، فإن رمالهم من ذهب خالص – حتى أنهم يزرعون الزهور وسط الرمال.
قطاع غزة، كيتا غزالة، هي منطقة صغيرة يبلغ طولها حوالي أربعين كيلومتراً وعرضها اثني عشر كيلومتراً، وهي خضراء ومزهرة مثل فيغا باخا في أليكانتي. مدنه الثلاث التي تطل جميعها على البحر من الشمال إلى الجنوب: العاصمة غزة وخان يونس ورفح التي تطل على حدود سيناء المصرية (الدائرة تضيق تدريجياً)، رغم أن القطاع نفسه مقسم إلى خمس محافظات (شمال غزة، غزة، غزة، دير البلح، خان يونس، ورفح).
ومن الغريب أنه من حيث المبدأ، من حيث المبدأ، هو واحد من أكثر الأماكن كثافة سكانية على هذا الكوكب (ما يقرب من 2,000 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد)، ومع ذلك عندما تسير في طرقاته لا ترى عيناك سوى الحقول المروية والبساتين والدفيئات الزراعية. “أما البشر، فأين هم؟ مكدسون في مخيمات اللاجئين. في شمال العاصمة غزة مخيمان: الشاطئ الساحلي على البحر، وجباليا الجبلي في الداخل، وفي خان يونس مخيم آخر ضخم وهائل، ورفح كان منذ البداية، منذ أن أنشئ عام 1949 لرعاية 41 ألف لاجئ من الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، مخيما للاجئين.
في خان يونس، قضيت بعض الوقت في خان يونس مع إسماعيل الفقعاوي، وهو صديق عزيز التقيته عام 1992 عندما كنت طالبًا في السنة الخامسة في الاقتصاد وكان هو يدرس الماجستير في الأدب الإنجليزي، وكل ذلك في أدنبرة في اسكتلندا. وفي تلك السنة التي كان إسماعيل فيها بعيدًا عن المنزل، كانت زوجته المشاكسة أم وسام ترعى الأبناء الثمانية لهذه العائلة الرائعة: حنان، وهي الكبرى التي كانت في مثل عمري تقريباً، ووسام، وعفاف، وميسون، وميسون، ومحمود، وشرف، ومحمد، ورجاء الصغيرة.
من الصعب أن نرى كيف أن كل العائلات التي تضم ثمانية وعشرة واثني عشر طفلاً تعيش في منازل صغيرة ذات غرفتين وغرفة معيشة ومطبخ. الرفاهية الغربية المتمثلة في غرفة لكل ابن أو ابنة لا يمكن تصورها هنا. لقد بنت الانتفاضة جدارًا عملاقًا من الإسمنت والصمت حول غزة. سبع سنوات من العزلة أجبرت الناس الذين يعيشون هناك على البحث عن مسامير مهما كانت ساخنة للتشبث بها من أجل البقاء على قيد الحياة. وأي ملجأ للبشر عندما تضيق بهم الحياة إلا الله! المحزن في الأمر أن هؤلاء المساكين الذين في بحثهم اليائس عن الله قد تلاعبت بهم المؤسسة الدينية. لقد عادت الشريعة الإسلامية إلى غزة ومعها التعصب في أشرس صوره. فبينما كان بإمكان النساء قبل ثماني سنوات أن يرتدين ما يحلو لهن من ملابس، عادت اليوم إلى الجحيم. على الرغم من ارتدائي للحجاب وتنورة يصل طولها إلى الكاحل، إلا أنني تعرضت للرجم بالحجارة إلى حد الحيرة لمجرد ارتدائي لقميص يصل طوله إلى الكوع.
لكن ذلك لم يمنعني من السعادة البالغة بالوقت الذي قضيته مع عائلة الفقعاوي الكبيرة. حتى أننا ذهبنا إلى الشاطئ مع حنان وكنت أعلمه اليوغا… يا له من شعور عارم بالسعادة الكاملة عندما تجمع بين عافية الجسد من خلال اليوغا وعافية الروح من خلال صداقة جميلة ومناظر طبيعية جميلة.
أنا، رغم كل الآلام ورغم أن الغرب استثمر المليارات في وأد الحركات العربية الديمقراطية في مهدها ورعى التطرف الإسلامي والأنظمة الملكية والجمهورية والفاسدة وغير الديمقراطية على حد سواء، إلا أنني وبكل دقة ما زلت أقول للعالم أن الشعوب العربية لديها نور في روحها.
لقد التقيت بالكثير من الناس الرائعين، القادرين على العطاء الكثير، القادرين على تقاسم آخر كسرة خبز لديهم دون أن يطلبوا شيئاً في المقابل، القادرين على فتح أبواب بيوتهم ومصاريع أرواحهم لك بإخلاص تام، مستعدين أن يعطوا كل ما لديهم للغريب، وأن يقدموا كل شيء من أجلك وأنت بالفعل صديقهم، صداقة تتقدم بسرعة وعلى أسس ثابتة؟ وبالمثل، وخلافًا للرأي العام، فقد قابلت أناسًا كثيرين مثقفين، يتمتعون بصفاء ذهني لا متناهٍ وقادرين على كشف شرور مجتمعهم وأسبابها بموضوعية تامة… لقد شعرت أن روحي تهتز بسعادة لا حدود لها…. وعلى الرغم من أنني أردت أن أترك لكم ابتساماتي، وأفكاري المفعمة بالحب والمودة الهائلة، إلا أنني أعتقد أنني قد أحضرت معي أكثر بكثير مما أعطيتكم.
كما قلت لك، الدائرة تضيق. بعد أن أقنعت حرس الحدود في رفح الذين لم يريدوا أن يسمحوا لي بالمرور إلى مصر لأنني لم أكن أحمل تأشيرة دخول، سرت بمحاذاة البحر، ببساتين نخيله الرائعة، حتى عبرت قناة السويس بالعبّارة ووصلت إلى القاهرة. تحققت النبوءة.
…
كانت الطائرة ترتفع ببطء فوق القاهرة. كانت شمس الظهيرة تسطع ساطعة في السماء. في البداية كانت خرسانة المدينة فقط مرئية. وتدريجياً ظهر تدريجياً البستان الأخضر لمصب النيل، وهو الامتداد الأخير من ذلك الشريط الرقيق من الخضرة الذي يصاحب النهر على طول مجراه. كان كل شيء عبارة عن بقع من الألوان؛ بقع البحر الزرقاء، والبقع الخضراء للبساتين وما وراءها، العدم، العدم اللانهائي المغرة.
…